حين تُبنى السلطة ولا تُبنى الدولة
في لحظة يروَّج فيها لانطلاق سوريا نحو عهد جديد من “الازدهار”، تتوالى التصريحات والمشاريع التي تُظهر البلاد وكأنها تعود إلى الحياة بفضل تدفقات مالية، وعقود استثمار كبرى، وتحالفات إقليمية ودولية. إلا أن الخطورة لا تكمن في وعود الإعمار بحد ذاتها، بل في الطريقة التي يُعاد بها تشكيل الدولة السورية، والتي تكشف عن مشروع لا يقوم على التعاقد الوطني، بل على ترتيبات فوقية تتقاطع فيها الأيديولوجيا مع الاستثمارات، وغياب الدستور مع الهيمنة الخارجية، وسط تغييب شبه كامل لصوت الشعب، والعدالة، والسيادة الفعلية.
من الناحية الدستورية، تُدار القرارات المصيرية في سوريا اليوم خارج أي إطار شرعي قائم على الإرادة الشعبية. فلا دستور معتمد، ولا برلمان منتخب، ولا فصل سلطات، بل سلطة مركزية تُبرم الاتفاقات، وتُعيد تشكيل الجيش، وتوزع الامتيازات، دون أي رقابة شعبية أو مساءلة قانونية. الدولة هنا ليست كيانًا سياديًا يحكمه القانون، بل جهازًا إداريًا يمارس السلطة باسم مشروع مفترض، لا باسم تعاقد وطني واضح.
اقتصاديًا، ما يُسوّق من مشاريع إعمار ومليارات استثمارية يبدو أقرب إلى نموذج ريعي تابع، تُسلَّم فيه موارد البلاد الاستراتيجية لشركاء خارجيين، دون خطة وطنية للإنتاج، أو حماية السوق المحلية، أو تنمية الصناعات والزراعة. تُدار البلاد كـ”ساحة استثمار مفتوحة”، لا كاقتصاد سيادي متوازن، وهو ما يُنتج نموًا هشًا، مرتهنًا، لا يستفيد منه الشعب بقدر ما يُكرّس النخبة الحاكمة وشبكات المصالح المرتبطة بها.
سياسيًا، تُعيد السلطة إنتاج نفسها من خلال الشرعية الدولية لا الشعبية، وعبر التحالف مع فاعلين خارجيين وضمّ قوى سابقة كانت في صلب الحركات الجهادية، بما في ذلك مقاتلون أجانب، إلى مؤسسات الجيش والدفاع. هذا الخيار يُسقط مفهوم الجيش الوطني، ويحوّله إلى كيان عقائدي–أمني، بعيد عن فكرة المواطنة والانضباط الجمهوري، ويُؤسس لمنظومة سلطوية يصعب إخضاعها لمساءلة أو إصلاح مستقبلي.
أما من الناحية السيادية، فالوضع أكثر خطورة. إذ يتوزع القرار الفعلي بين هيمنة تركية، ممولين خليجيين، ضامنين دوليين، شركاء غربيين، وقوى داخلية متعددة الولاء، بينما تغيب المركزية السيادية للدولة. البلاد لم تعد تمسك بقرارها، بل أصبحت موضع تفاهمات خارجية تُنفّذ عبر أدوات محلية، تُنذر بتفكيك تدريجي لمعنى الدولة–الأمة، وتُقوّض قدرتها على حماية نفسها أو التعبير عن مصالح مواطنيها.
اجتماعيًا، تُفرَض هوية وطنية هجينة، تُقصي المواطن العادي، وتُكافئ حملة السلاح السابقين، وتُهمّش الضحايا والمعارضين. المجتمع لا يُستشار بل يُهندَس، والعدالة الانتقالية غائبة بالكامل. لا محاسبة، لا اعتراف، لا تعويض، وكأن ما حدث في العقد الماضي يُراد نسيانه قسرًا، ليُستبدل بـ”واقع جديد” يُصاغ بمراسيم وأوامر فوقية، لا بحوار وطني جامع.
أمنيًا، فإن تركيبة الجيش والمؤسسات الأمنية باتت مزيجًا من قوى دينية، وتمويل خارجي، وتدريب إقليمي، يُحوّل هذه الأجهزة من حامية للمجتمع إلى حارسة للسلطة، ويُنذر بتحوّلها إلى أدوات قمع مغلقة، بعيدة عن أي ضبط دستوري أو مساءلة مدنية.
حقوقيًا، يجري دفن ذاكرة الضحايا. لا حديث عن المعتقلين، أو المفقودين، أو جبر الضرر، أو المصالحة. في مشهد تُعاد فيه بناء الطرق والمصانع، لا يُبنى الإنسان، بل يُستخدم، ويُعاد تشكيله ليناسب السلطة الجديدة، لا لينتمي لدولة عادلة.
ما يُبنى اليوم ليس دولة، بل سلطة. وما يُسمى “نهضة” ليس سوى ترميم فوقي لبنية غير شرعية، تُعاد هندستها لتستمر، لا لتتغير. الدولة التي لا يُنتجها دستور، ولا تُنظّمها قوانين، ولا يُراقبها شعب، ولا تُحاسبها عدالة، ليست دولة، بل واجهة لحكم مفروض. وإذا لم يُطرح بديل وطني سيادي–مدني، فإن كل إعمار سيكون مجرد بناء فوق ركام أخلاقي وقانوني وسياسي، لا يُنتج إلا دورة جديدة من الانهيار المؤجل.
شادي عادل الخش