من التهميش إلى الشراكة – المرأة وصناعة النهضة
المقدمة
لا يمكن لمشروع نهضوي أن يُبنى على قاعدة غير مكتملة، ولا أن يدّعي السعي نحو الحرية والعدالة بينما يُقصي نصف المجتمع من دوائر التأثير والمشاركة. إنّ اختزال المرأة في دور رمزي، أو التعامل معها كعنصر تجميلي ضمن خطط الإصلاح، هو خيانة لمفهوم النهضة ذاته.
فالمرأة ليست موضوعًا جانبيًا أو رقمًا في معادلة التوازنات السياسية، بل هي نواة فاعلة في تشكيل الوعي، وإنتاج الحياة، وبناء الدولة. في السياق السوري، يتضاعف هذا الإقصاء نتيجة تضافر القمع السياسي مع إرث ثقافي–ديني رسّخ التمييز والوصاية، وجعل من التهميش أمرًا “طبيعيًا” ومُسلّمًا به.
من التهميش إلى الشراكة (المرأة وصناعة النهضة)
لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن يُبنى على نصف الحقيقة، ولا أن يزعم السعي نحو العدالة وهو يترك نصف المجتمع خلفه، مثقلاً بقيود الإقصاء الرمزي والعزل البنيوي. إنّ المرأة ليست قضية يُفرَض أن تحل ضمن مراحل “الإصلاح”، ولا شريحة اجتماعية هامشية، بل هي الطرف المتكافئ في بناء الدولة وصياغة المعنى وصناعة الحياة.
لذا فإن أي نهضة حقيقية لا يمكن أن تقوم دون الاعتراف الجذري بدور المرأة بوصفها شريكًا في الرؤية، لا مفعولًا به ضمن سرديات جاهزة.
تشريعات تُكرّس التمييز بدل أن ترفعه
في السياق السوري، شكّلت المنظومة القانونية أحد أعمق أدوات التهميش ضد النساء. فبدل أن تكون القوانين وسيلة لإنصاف المظلومية التاريخية، تحوّلت إلى أداة لشرعنة الهيمنة الذكورية. تستند معظم قوانين الأحوال الشخصية إلى تفسيرات دينية تقليدية، تُبقي المرأة في موقع الطرف الخاضع في الأسرة، وتحرمها من المساواة في الحقوق الأساسية، مثل حق الطلاق المتكافئ، وحضانة الأطفال، والميراث، وحرية الزواج والتنقل.
كما لا يحظى العنف الأسري بأي تجريم صريح في القانون السوري، ويُترك التعامل معه لتقدير الشرطة والقضاء، في غياب آليات حماية حقيقية. وعلى الرغم من التعديلات الجزئية التي أُجريت على بعض القوانين (مثل المادة 548 التي كانت تمنح عذرًا مخففًا في “جرائم الشرف”)، إلا أن روح القانون لا تزال تميل إلى حماية البنية الأبوية أكثر من حماية الكرامة الإنسانية للمرأة.
كذلك، تمنع المرأة السورية من نقل جنسيتها إلى أطفالها، مما يعمّق التبعية القانونية، ويُخضِع الأسرة لسلطة الرجل بشكل حصري، حتى في أبسط أشكال الانتماء الوطني. وقد تم توثيق هذه الاختلالات من قبل منظمات مثل “اللجنة الدولية للقانونيين” و”هيومن رايتس ووتش”، التي اعتبرت أن التشريعات السورية لا تتماشى مع التزامات الدولة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، رغم توقيعها عليها بتحفظات جوهرية.
صورة مختطفة ودور مُملى
في الثقافة الشعبية السورية، كما في الإنتاج الإعلامي والديني، حُبست المرأة في أدوار نمطية محصورة: الأم، الزوجة، الضحية، أو الفاتنة. نادرًا ما تُقدَّم كعقل مستقل، أو كصانعة للتاريخ والفكر والسياسة. هذا التمثيل الرمزي المنقوص يؤسس لوعي جمعي يرى في استقلال المرأة خطرًا أو خروجًا عن “الطبيعة”. ومن خلال هذا التصوير المستمر، يُعاد إنتاج التهميش في العقل أكثر مما يُمارس على الجسد.

من يملك شرعية التأويل؟
على المستوى الفكري، احتُكرت مفاتيح تأويل النصوص (الدينية، الوطنية، الثقافية) من قبل نخب ذكورية، حرمت النساء من إنتاج قراءات بديلة أو طرح أسئلة مغايرة. ونتيجة لذلك، ظلّت المرأة موضوعًا للحديث، لا صانعة للخطاب. وحتى النخب السياسية أو الثقافية التي تتبنى خطابًا “تقدميًا”، كثيرًا ما تتعامل مع قضايا النساء من منطلق حماية لا من منطلق شراكة، مما يفضح استمرار الهرمية في توزيع السلطة المعرفية.
من أساسيات النهضة إصلاح شامل للمنظومة التشريعية
إقرار دستور يضمن المساواة التامة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، دون تحفظات على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المرأة (وخاصة اتفاقية سيداو).
تجريم الزواج القسري والمبكر بشكل قاطع.
ضمان حق المرأة في نقل الجنسية لأطفالها.
تشريع قانون خاص بمناهضة العنف ضد النساء يشمل العنف الجسدي، النفسي، الاقتصادي، والجنسي
إعادة هندسة السلطة والمؤسسات
إنشاء هيئة وطنية مستقلة لتمكين النساء تتبع مباشرة للسلطة التشريعية، وظيفتها مراقبة أداء المؤسسات في ما يتعلق بالمساواة.
تمكين فعلي لا شعارات إنشاء صناديق دعم وطنية للرعاية المجتمعية (حضانات، دعم الأم العاملة)، لتوزيع عبء العمل المنزلي ورعاية الأطفال.
من التهميش إلى الشراكة: تفكيك الخطاب الذكوري
إصلاح شامل للمناهج التعليمية من الروضة حتى الجامعة، لتفكيك الصور النمطية الجندرية، وتعزيز مفاهيم المساواة، والعدالة، والمواطنة المشتركة.
إطلاق حملات إعلامية وطنية طويلة الأمد تعيد تشكيل صورة المرأة في الثقافة العامة، وتواجه الخطاب الذي يربط بين الأنوثة والعار أو القصور.
إشراك الرموز الدينية والفكرية في مراجعة الخطاب الديني وإبراز الأصوات التي تدعو إلى المساواة من داخل المنظومة الدينية ذاتها.
استعادة المرأة لموقعها كمنتِجة للمعنى إدماج مادة “النوع الاجتماعي والمواطنة” في التعليم العالي، وخاصة في كليات القانون، الإعلام، والدراسات الدينية.
من التهميش إلى الشراكة:
تحرير المرأة في المشروع النهضوي ليس امتيازًا يُمنح، بل هو شرط وجود.
إنه معيار جوهري لصدقية المشروع ذاته، واختبار صارم لوعيه بذاته وغاياته. فالمجتمع الذي يستثني النساء من بناء الحاضر، أو يقيّد مشاركتهن خلف واجهات شكلية، لا يمكنه أن يزعم امتلاك رؤية للمستقبل. والنهضة، كما نفهمها، ليست بناء أبراج شاهقة، ولا صوغ خطط خمسية بأدوات قديمة، بل هي في جوهرها عملية إعادة تشكيل للعلاقات، والسلطات، والمعاني، تبدأ من القاعدة الأخلاقية للعدالة والمساواة، وتنتهي ببنية مؤسساتية لا تميّز بين جسد وآخر، أو صوت وآخر.
في هذا المعنى،…
لا تكون المرأة موضوعًا للتنمية، بل فاعلة في صياغة شروطها.
لا تكون مستفيدة من الإصلاح، بل شريكة في هندسته.
ولا تكون “ملحقًا” للهوية الوطنية، بل روحها المتجددة.
النهضة الحقيقية لا تقف عند تحرير الأرض من الاستبداد، بل تحرّر الوعي من أساطيره المتوارثة، وتحرّر المؤسسات من آلياتها التمييزية، وتحرّر اللغة ذاتها من اختلال المعنى.
من التهميش إلى الشراكة كل إصلاح لا يبدأ بتحرير النساء من أسر القوانين الجائرة، ومن أسر الصورة النمطية، ومن أسر اللا مساواة المتوارثة في الاقتصاد والمعرفة والسياسة… هو مشروع نصف النهضة، ونصف الوعي، ونصف الطريق.
والأوطان التي تمضي في الطريق الناقص، إما تعود إلى نقطة البداية، أو تُعيد إنتاج أزماتها القديمة بلون جديد