ملاحق مفاهيمية للقسم التاسع
الملحق الثالث آليات حماية السلم الأهلي
من التصالح الاجتماعي إلى البناء السياسي
مقدمة الملحق
حين تمزق الحروب والنزاعات النسيج الاجتماعي لأي بلد،
لا يكون وقف إطلاق النار بحد ذاته ضمانًا لاستدامة السلام.
بل إن السلم الأهلي، كحالة مجتمعية وسياسية،
يتطلب هندسة دقيقة تراعي الجراح المفتوحة،
وتؤسس قواعد جديدة للتعايش، قادرة على احتواء التعدد،
ومنع انزلاق المجتمع مرة أخرى إلى مستنقع العنف.
وفي السياق السوري،
حيث تداخلت الانقسامات الطائفية، العرقية، المناطقية،
وتراكمت مشاعر المظلومية المتبادلة،
تصبح حماية السلم الأهلي ليست مجرد خيار، بل شرط حياة.
هذا الملحق يقدم رؤية عملية–فكرية لبناء آليات حماية السلم الأهلي،
انطلاقًا من الفهم العميق للواقع السوري،
ووصولًا إلى التأسيس السياسي–المجتمعي لمستقبل قابل للاستمرار.
أولًا: السلم الأهلي – تعريف ومحددات
السلم الأهلي لا يعني غياب الحرب فقط،
بل يعني:
- وجود حالة من الطمأنينة المجتمعية المستندة إلى عقد اجتماعي واضح ومقبول.
- تمتع جميع الأفراد والجماعات بالشعور بالأمان القانوني والسياسي والاجتماعي.
- توافر آليات لحل النزاعات سلمياً دون اللجوء إلى العنف.
- وجود نظام قانوني عادل يحمي الحقوق ويحاسب الانتهاكات.
- بناء ثقافة مدنية تحترم التعدد وتجرّم التحريض على الكراهية والعنف.
السلم الأهلي إذًا، هو حالة بناء دائم،
لا حالة سكون أو صمت قسري مفروض.
ثانيًا: مراحل بناء السلم الأهلي بعد النزاعات
بناء السلم الأهلي عملية معقدة تمر بعدة مراحل:
- الاعتراف بالجرائم والانتهاكات:
لا يمكن تجاوز الألم دون الاعتراف به.
السكوت عن المظالم يزرع ألغامًا تحت الأرض. - كشف الحقيقة بصورة شفافة:
عبر لجان تحقيق مستقلة تحظى بثقة جميع الأطراف. - ممارسة العدالة الانتقالية:
لمحاسبة الجناة الفرديين لا الجماعات بأكملها،
وتجنب الانتقام الجماعي الذي يعيد إنتاج العنف. - جبر الضرر وإعادة الاعتبار للضحايا:
عبر تعويضات مادية، رمزية، وإدماج مجتمعي. - مأسسة آليات المصالحة الوطنية:
مصالحة لا تقوم على الإكراه أو الإنكار،
بل على الاعتراف المتبادل والاعتذار الصريح والصفح الحر. - ترسيخ ضمانات دستورية وقانونية جديدة:
تحمي الأفراد من الاستهداف بسبب انتماءاتهم أو آرائهم. - إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة:
كهوية تتجاوز الطوائف والأعراق نحو فضاء المواطنة المتساوية.
ثالثًا: أدوات حماية السلم الأهلي في التجربة السورية الجديدة
انطلاقًا من خصوصية المجتمع السوري،
تتطلب حماية السلم الأهلي اعتماد الأدوات التالية:
- إنشاء هيئة عدالة انتقالية وطنية مستقلة:
لرصد الانتهاكات، المحاسبة الفردية، حماية الضحايا، وتعزيز العدالة. - إصدار قانون مكافحة خطاب الكراهية والطائفية:
لتجريم التحريض العلني على العنف أو التمييز أو الإقصاء. - إعادة بناء الإعلام الوطني:
بحيث يكون إعلامًا مدنيًا مسؤولًا،
يعمل على تهدئة النفوس لا تأجيج العصبيات. - مراجعة المناهج التعليمية جذريًا:
لضمان غرس ثقافة السلم، التسامح، والتنوع في الأجيال القادمة. - إطلاق برامج مجتمعية للحوار والتلاقي:
داخل القرى والمدن، عبر ندوات، ورش عمل، ومبادرات شبابية. - دعم مبادرات المصالحة المحلية:
التي تنبع من المجتمعات نفسها، مع توفير الإطار القانوني لحمايتها. - تحصين الجيش والأمن والقضاء من التسييس الطائفي:
وجعلها مؤسسات وطنية جامعة تمثل جميع السوريين دون تمييز. - تبني سياسة اقتصادية عادلة:
تمنع تغذية الاحتقانات عبر الظلم الاقتصادي أو التهميش المناطقي.
رابعًا: المخاطر التي تهدد السلم الأهلي إذا لم يُحمى بعناية
- انفجار موجات انتقام مؤجلة:
إذا تم تجاهل آلام الضحايا، أو فرضت مصالحة قسرية. - تكرار دوامة العنف تحت شعارات مختلفة:
إذا لم يتم نزع فتيل العصبيات الطائفية والعرقية عبر سياسات جذرية. - انزلاق المجتمع إلى نمط المحاصصة الطائفية الدائمة:
مما يؤدي إلى تفتيت الدولة وتحويلها إلى كيانات شبه مستقلة متنازعة. - فقدان الثقة بالمؤسسات الجديدة:
إذا لم تثبت هذه المؤسسات حيادها، وكفاءتها، وقدرتها على حماية الجميع. - تحول السلم الأهلي إلى غطاء زائف للقمع الجديد:
إذا تم استخدام خطاب المصالحة لقمع المطالب المشروعة بالعدالة والمحاسبة.
خامسًا: السلم الأهلي كرافعة لبناء الدولة الوطنية
إن حماية السلم الأهلي ليست غاية في ذاتها فقط،
بل هي:
- الشرط الأول لإعادة بناء الثقة الاجتماعية.
- الأساس الذي ستُقام عليه دولة المواطنة المتساوية.
- السياج الذي سيمنع تكرار مآسي الماضي.
- الضامن لاستدامة النظام الديمقراطي الناشئ.
فمن دون حماية السلم الأهلي عبر منظومات مدنية وقانونية ومجتمعية قوية،
لن تكون الدولة سوى واجهة هشة لصراعات كامنة،
سرعان ما تنفجر مع أول أزمة.
خاتمة الملحق
السلم الأهلي الحقيقي لا يُفرض بمرسوم،
ولا يُبنى بالكلمات الرنانة،
بل يُصاغ عبر عقد اجتماعي حرّ،
تضمنه مؤسسات عادلة،
وتغذيه ثقافة سياسية مدنية نقدية.
وإن مشروع النهضة السورية،
إذا أراد أن يكون مشروعًا قابلاً للحياة لا مشروعًا مثاليًا فارغًا،
لا بد أن يجعل حماية السلم الأهلي إحدى أولوياته القصوى،
لا عبر المصالحات الشكلية، بل عبر تأسيس دولة تحترم الإنسان،
دولة تحمي الاختلاف لا تقمعه، وتنظم التعدد لا تفتته.
بهذا وحده،
يمكن أن تتحول سوريا من أرض المذابح إلى وطنٍ للكرامة والحرية والعدالة.