web analytics
القسم العاشر – الباب الأول

الفصل الأول تحصين الديمقراطية من صناديق الاقتراع إلى سيادة القانون

خارطة تأسيس الديمقراطية السورية كنظام حوكمي مستدام ومؤسسي بعد الاستبداد

 أولًا: الإشكالية الجوهرية – من الاستبداد القانوني إلى التلاعب بالديمقراطية الشكلية

منذ أكثر من نصف قرن، تم إخضاع المفهوم الديمقراطي في سوريا لعملية تفريغ منهجي من مضمونه، حيث تحوّلت الانتخابات إلى مسرحية دائمة للشرعنة، وتحول القانون إلى أداة طيّعة بيد السلطة، وفُقدت أي إمكانية فعلية لتداول السلطة، أو حتى مساءلتها. وفي هذا السياق، لم يكن الفساد ولا القمع نتاجًا طارئًا، بل نتيجة مباشرة لهشاشة البنية السياسية والقانونية التي تم تصميمها لحماية السلطة من المجتمع، لا العكس.

لقد بيّنت تجارب ما بعد الاستبداد في العالم – من أوروبا الشرقية إلى أمريكا اللاتينية – أن الديمقراطية لا تُبنى بالنيات ولا بإعلان الانتخابات فقط، بل تتطلب هندسة متكاملة لنظام تداول السلطة وسيادة القانون، بما يضمن ديمومة المشاركة السياسية، ومؤسساتية المساءلة، واستقرار التعددية.

ومن هنا، فإن تحصين الديمقراطية السورية لا يبدأ من صندوق الاقتراع، بل من فهمٍ عميق لمكونات السلطة نفسها، وللشروط التي تضمن ألا يُعاد إنتاج الاستبداد بوسائل ديمقراطية ظاهرية.

 ثانيًا: تشخيص التحديات الأساسية

يُظهر تحليل السياق السوري وخبرات العالم الانتقالية مجموعة تحديات محورية تهدد أي مسار ديمقراطي مستدام، أبرزها:

غياب العقد الاجتماعي الحقيقي الذي يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس المشاركة والمساءلة.

اختطاف الفضاء السياسي من قبل النخب التقليدية أو القوى المسلحة أو الجهات الخارجية.

هشاشة البنية القانونية والدستورية، وغياب الضمانات القضائية المستقلة.

انعدام الثقة الشعبية بالمؤسسات نتيجة تراكم الخيبات والتجارب المنهارة.

عدم وجود آليات مؤسسية لضبط الأداء الديمقراطي ومراقبته وتصحيحه.

ولذلك، فإن المقاربة الجديدة يجب أن تبدأ من تفكيك هذه التحديات، وتحويل كل واحدة منها إلى مدخل لإعادة البناء، لا مجرد معضلة نظرية.

 ثالثًا: خارطة العمل لتحصين الديمقراطية السورية

  1. 1. إعادة بناء الشرعية على أسس المشاركة الحقيقية

إقرار مبدأ أن الشعب مصدر السلطات جميعًا ضمن نص دستوري لا يقبل التأويل أو التلاعب.

صياغة إعلان تأسيسي ديمقراطي يؤطّر المرحلة الانتقالية ويمنع احتكار السلطة أو التفرد بها.

تشكيل مجلس تأسيسي سيادي منتخب، يضطلع بصياغة دستور دائم وفق آلية تشاركية مجتمعية، تضمن عدالة التمثيل وتوازن القوى.

  1. 2. تأسيس منظومة انتخابية مستقلة ومتوازنة

تشكيل هيئة مستقلة للانتخابات تتمتع بالاستقلال الكامل قانونيًا ومؤسساتيًا.

وضع قانون انتخابي عادل يعكس التعددية السياسية والمناطقية والاجتماعية، ويمنع الاحتكار السياسي أو المالي.

ضمان الرقابة المزدوجة – المحلية والدولية على العملية الانتخابية، وضمان حرية الإعلام والتمويل والمشاركة.

  1. 3. إعادة تعريف السلطة القضائية كأداة حماية للمجتمع

إعادة هيكلة القضاء كليًا، وإقراره كسلطة مستقلة فعليًا لا صوريًا.

تأسيس مجلس قضاء أعلى منتخب يشرف على التعيينات والترقيات والانضباط، ويمنع التسييس.

إقرار حق التقاضي ضد الدولة بوصفه حقًا دستوريًا أساسيًا لا يجوز تعطيله.

  1. 4. ترسيخ مبدأ سيادة القانون كقيد على كل سلطة

إلغاء جميع القوانين الاستثنائية التي شرعنت القمع والإفلات من المحاسبة.

إقرار مبدأ عدم تحصين أي سلطة أو جهة أو فرد من المساءلة.

جعل القضاء الدستوري سلطة رقابة عليا حقيقية، مهمتها فض النزاعات بين السلطات، وحماية الدستور، ووقف أي تجاوز قانوني.

  1. 5. إطلاق البنية الرقابية المجتمعية المستقلة

تمكين الصحافة الحرة، والمجتمع المدني، ومراكز الفكر، والجامعات من ممارسة الرقابة السياسية والمجتمعية على السلطة.

إقرار قانون حرية الوصول إلى المعلومات العامة، وضمان علنية الأداء السياسي والإداري.

تحويل المجتمع المدني من وظيفة “المرافقة” إلى وظيفة “الرقابة والمساءلة”، ضمن دور مؤسسي دائم.

 رابعًا: المرحلة التنفيذية – خارطة زمنية لتحصين الديمقراطية

  • المرحلة الأولى (أشهر 0–12)

تشكيل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.

انتخاب مجلس تأسيسي لصياغة الدستور.

إقرار الإعلان التأسيسي الديمقراطي.

  • المرحلة الثانية (سنة 1–3)

إصدار الدستور الجديد وتفعيل المحكمة الدستورية.

إجراء أول انتخابات عامة شفافة.

بناء النظام القضائي المستقل وضمان استقلال النيابة.

  • المرحلة الثالثة (بعد 3 سنوات)

تقييم النظام السياسي وتشريعاته وتطويرها.

إدراج مؤشرات دورية لقياس جودة الديمقراطية ونزاهة الأداء السياسي.

مأسسة العلاقة بين الدولة والمجتمع ضمن آليات تعاون ورقابة متوازنة.

خامسًا: تحصين الديمقراطية كمدخل لاستدامة السيادة الوطنية

لا يمكن لدولة أن تحقق السيادة الكاملة دون سيادة القانون، ولا يمكن لأي سيادة أن تستمر إذا ما أُسست على احتكار السلطة.
إن الديمقراطية هنا ليست مجرّد أداة للحكم، بل هي الضمانة البنيوية الوحيدة لعدم عودة الاستبداد، ولعدم انزلاق المجتمع نحو التفكك أو الصراع الداخلي.

وفي مشروع النهضة السورية، فإن تحصين الديمقراطية لا يُقصد به تثبيت سلطة ما، بل تحصين المجتمع نفسه ضد الإلغاء، والسلطة ضد الانفلات، والدولة ضد الانهيار، وذلك من خلال تحويل الديمقراطية إلى نظام مؤسسي حيّ، مرن، وقابل للتطوير، لا مجرد لحظة اقتراعية تُختطف.