القسم العاشر – الباب الثاني
الفصل الخامس صيانة المنظومة الاقتصادية من الانفراج المؤقت إلى الاستقرار البنيوي
خارطة تحصين الاقتصاد الوطني من الهشاشة وتأسيس قواعد الصمود الذاتي طويل الأمد
أولًا: خلفية الإشكال – من اقتصاد النجاة إلى اقتصاد الهشاشة
شهد الاقتصاد السوري بعد سقوط النظام الاستبدادي موجة من الانفراج النسبي، مدفوعة بعوامل تحريرية لحظية مثل رفع القيود، وتدفق المساعدات، وانخفاض حجم النهب المؤسساتي. لكن هذا الانفراج لم يُرافقه تحوّل بنيوي في طبيعة المنظومة الاقتصادية، ما جعله هشًّا وسريع التآكل.
وبسبب غياب مقاربة وطنية شاملة لصيانة الاقتصاد وتحويله إلى رافعة للسيادة، بدأت ملامح الضعف بالظهور من جديد:
اختلالات سوقية بنيوية.
استقطاب عشوائي لرؤوس الأموال.
استعادة شبكات الفساد لنفوذها عبر بوابات جديدة.
وضبابية في العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص.
وهكذا برز خطر تحوّل المرحلة الانتقالية من فرصة إصلاح إلى بوابة لإعادة إنتاج الاختلالات السابقة بشكل مموّه، ما قد يُفضي إلى انهيار جديد.
ثانيًا: التحديات التي تهدد استقرار المنظومة الاقتصادية
ضعف الإطار القانوني المنظم للعلاقات الاقتصادية والسياسات العامة.
غياب الرؤية السيادية لإدارة الموارد واستثمارها في المصلحة الوطنية.
الاعتماد على مصادر تمويل خارجية غير مستقرة أو مشروطة سياسيًا.
تفكك المنظومة الإنتاجية وغياب التخطيط القطاعي المتكامل.
إعادة تشكّل مراكز نفوذ جديدة تُهدد ببناء “نظام ريعي مموّه” تحت غطاء الأسواق.
ثالثًا: منطلقات المعالجة – الاقتصاد كمنظومة سيادية لا كمجرد حقل تقني
الاقتصاد في الدولة الحديثة لم يعد قطاعًا منفصلًا، بل هو بنية سيادية تُترجم فيها خيارات الدولة الكبرى: العدالة، الاستقلال، التوزيع، الأمن.
ولذلك، فإن صيانة الاقتصاد لا تُقاس بمعدلات النمو اللحظية، بل بقدرة النظام الاقتصادي على:
الاستمرار دون انهيار أمام الصدمات.
الحفاظ على وظائفه الإنتاجية والخدمية والتوزيعية.
حماية الفئات الأضعف ومنع تحوّل الفقر إلى بنية دائمة.
توليد الثروة من الداخل، لا عبر الاستدانة والتبعية.
رابعًا: خطوات العمل لبناء منظومة اقتصادية مستقرة ومُحصَّنة
1. إعادة بناء الإطار القانوني والمؤسسي للنظام الاقتصادي
إصدار “قانون الرؤية الاقتصادية الوطنية” بوصفه مرجعًا فوقيًّا لجميع السياسات.
إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والسوق والمجتمع على أساس شراكة وتوازن.
استحداث مجلس وطني اقتصادي يضم ممثلين عن القطاعات كافة، ويشرف على صياغة السياسات العامة ومتابعتها.
2. إعادة هيكلة القطاعات الاستراتيجية على أسس إنتاجية
تحديد القطاعات ذات الأولوية (الزراعة – الطاقة – الصناعة التحويلية – التكنولوجيا – الأمن الغذائي).
وضع خطط ثلاثية الأمد (قصيرة – متوسطة – طويلة) لكل قطاع، تربط بين التمويل والتشغيل والمردود الوطني.
تحرير القطاعات من البيروقراطية والتداخل السلطوي، وضمان إدارتها بكفاءات وطنية مستقلة عن المصالح الفئوية.
3. تنظيم حركة رؤوس الأموال والاستثمار وفق معايير السيادة
ضبط الاستثمارات الأجنبية ضمن رؤية وطنية تمنع الاحتكار والتفكيك الهيكلي للاقتصاد.
دعم الاستثمار الوطني المحلي عبر تسهيلات ذكية، دون تحوّله إلى زبائنية اقتصادية.
إنشاء هيئة رقابة مستقلة على الاستثمارات والعقود العامة، مرتبطة بالمجلس الاقتصادي الوطني.
4. تحصين الاقتصاد ضد النكسات السياسية أو الخارجية
تنويع الشركاء التجاريين، وتأسيس قاعدة علاقات دولية متوازنة.
بناء احتياطيات استراتيجية من الغذاء والطاقة والعملات.
تطوير أدوات المواكبة الاقتصادية للأزمات (صناديق طوارئ – سياسات تدخل – شبكات دعم مرنة).
5. تحويل الاقتصاد إلى منصة عدالة اجتماعية واستقرار سياسي
توزيع الاستثمارات بشكل عادل جغرافيًا ومناطقيًا.
إقرار مبدأ “الجدوى الاجتماعية” إلى جانب الجدوى الاقتصادية عند تخصيص الموارد.
إدراج مؤشرات الإنصاف الاقتصادي ضمن تقارير الأداء السنوية للحكومة.
خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية
- المرحلة الأولى (أشهر 0–12)
إطلاق الرؤية الاقتصادية الوطنية المؤسِّسة.
تفعيل مجلس التخطيط الاقتصادي وتكليف اللجان القطاعية.
إيقاف العقود العشوائية السابقة ومراجعة الأصول العامة.
- المرحلة الثانية (سنة 1–3)
بدء تنفيذ برامج إعادة الهيكلة القطاعية.
تنظيم الاستثمار المحلي والأجنبي وفق المعايير الجديدة.
وضع خريطة وطنية للفرص الاقتصادية المحمية قانونيًا.
- المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)
دمج مؤشرات الصمود الاقتصادي في جميع السياسات العامة.
مأسسة التقييم الاقتصادي العام سنويًا ضمن تقرير وطني يُقدَّم للبرلمان والشعب.
مراجعة دور الدولة في الاقتصاد كل خمس سنوات لضمان التوازن وعدم الانزلاق نحو الشللية أو الاحتكار الجديد.
سادسًا: نحو اقتصاد وطني مستدام ومتكيّف وصامد
صيانة المنظومة الاقتصادية لا تعني تثبيت الوضع القائم، بل تعني تأهيل البنية الاقتصادية الوطنية لتكون قادرة على مواجهة التحديات، وتوليد فرص الحياة، وحماية السيادة، وتحقيق العدالة.
فلا نهضة سياسية بدون قاعدة اقتصادية صامدة، ولا استقرار مجتمعي دون توزيع عادل للموارد، ولا استقلال فعلي بدون قدرة اقتصادية على الصمود في وجه الابتزاز والإملاء.