web analytics
القسم العاشر – الباب الثاني

الفصل الثامن الأمن الاجتماعي

من التعويض المؤقت إلى منظومة الحقوق

إعادة بناء وظيفة الدولة في الحماية المجتمعية على أساس السيادة والعدالة والاستدامة

 أولًا: الإشكالية – من الإعانة المشروطة إلى التفكك الهيكلي

لم يكن ما سُمّي بـ”الأمن الاجتماعي” في سوريا إلا واجهة رمزية لسياسات إفقار وتدجين طويلة الأمد.
تم تحويل الدعم من حق إلى مكرمة، والرعاية من التزام إلى أداة ولاء، فغاب المفهوم الحقيقي للأمن الاجتماعي بوصفه ركيزة في بناء المجتمع والدولة، لا مجرد سياسة مؤقتة لاحتواء الغضب الشعبي.

وانتهى الأمر إلى مجتمع مُنهك، هش، غير محصّن، لا يملك أي ضمانات حقيقية ضد الفقر، المرض، البطالة، الشيخوخة، أو الصدمات.

وقد أثبتت الكارثة السورية أن غياب منظومة حماية اجتماعية مستقلة ومؤسسية أدّى إلى انهيار متسارع للتماسك الداخلي، وانفجار الهشاشة بأشكال طائفية وجهوية وأمنية.

 ثانيًا: التحديات البنيوية أمام تأسيس منظومة أمن اجتماعي متكاملة

تفكك النظام التأميني وفساده، وضعف تغطيته السكانية والجغرافية.

غياب أي ضمانات قانونية شاملة للحق في الرعاية، والضمان، والمعونة.

ارتباط الدعم المالي بالغرض السياسي، لا بالحاجة الاجتماعية.

انفصال السياسات الاجتماعية عن الواقع السكاني–الاقتصادي للمجتمعات المحلية.

انهيار الخدمات العامة الأساسية: الصحة، التعليم، السكن، النقل، بشكل يُفقد المجتمع أي أمان معيشي.

 ثالثًا: المنطلقات الجديدة – الأمن الاجتماعي كحق، كأداة استقرار، وكركيزة للنهضة

إن تأسيس الأمن الاجتماعي لا يُبنى على الإحسان أو الصدقات أو منح الطوارئ، بل على ثلاث قواعد متكاملة:

الحق: الدولة تلتزم قانونيًا بحماية الحد الأدنى من كرامة المواطن المعيشية، الصحية، السكنية، والتعليمية.

الاستقرار: بدون أمن اجتماعي شامل، لا يمكن لأي استقرار سياسي أو اقتصادي أن يصمد.

النهضة: التمكين المجتمعي يبدأ من الحماية لا من المبادرة، ومن الثقة لا من الخوف.

 رابعًا: خطوات العمل لبناء منظومة أمن اجتماعي وطنية مستدامة

1. إقرار الأمن الاجتماعي كمبدأ دستوري وحق قانوني غير قابل للتقييد

تضمين نصوص واضحة تكفل حق كل مواطن في التأمين، والرعاية، والحماية من التهميش والفقر.

إلزام الحكومات بتأمين منظومة مستدامة للضمان الاجتماعي، بعيدة عن أي توظيف سياسي أو فئوي.

2. إعادة هيكلة النظام التأميني والصحي والسكني

دمج صناديق التأمين العام في هيئة واحدة مستقلة، تُدار وفق معايير الكفاءة والشفافية.

تطبيق التأمين الصحي الشامل تدريجيًا، مع أولوية للفئات الأكثر هشاشة.

إطلاق البرنامج الوطني للسكن الاجتماعي الميسّر، وفق قاعدة الاحتياج لا الامتياز.

3. إنشاء شبكة دعم طارئ وطنية مرنة وشفافة

تأسيس “الصندوق الوطني للاستجابة الاجتماعية”، بتمويل مشترك من الدولة والقطاع الخاص والمغتربين.

تطوير منظومة سريعة للتدخل في حالات الكوارث والأزمات، تُربط بالحكومة والسلطات المحلية والمجتمع المدني.

فصل الدعم الاجتماعي عن الهوية السياسية أو الطائفية أو الجغرافية.

4. ربط الدعم الاجتماعي ببرامج التمكين والتنمية

تحويل برامج الدعم إلى أدوات عبور نحو الاكتفاء، عبر التدريب والتأهيل وفرص العمل.

دمج الفئات المهمّشة في برامج تمكين مجتمعي مدروس، يمنع تحول الدعم إلى تبعية دائمة.

إدراج الفئات الأكثر ضعفًا (ذوي الإعاقة، الأرامل، المسنّين، الأطفال غير المرافقين) ضمن حماية خاصة.

5. تطوير مؤشرات الأمن الاجتماعي والمحاسبة عليها

تطوير مؤشر وطني للأمن الاجتماعي يُحدّث سنويًا ويُدرج في تقارير أداء الحكومة.

إلزام الوزارات بتقديم تقارير تقييم دوري لمستوى التغطية والفجوات.

إشراك المجتمع المدني في تقييم جدوى السياسات الاجتماعية ومردودها الفعلي.

 خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية

  • المرحلة الأولى (أشهر 0–12)

إطلاق الميثاق الوطني للأمن الاجتماعي.

تأسيس الهيئة العامة للضمان الاجتماعي المستقل.

بدء المسح الوطني لتحديد الفئات المستهدفة الأولوية.

  • المرحلة الثانية (سنة 1–3)

تطبيق التأمين الصحي الشامل للفئات منخفضة الدخل.

تدشين أول دفعة من مشاريع السكن الاجتماعي في المناطق الأكثر تضررًا.

ربط برامج الدعم ببرامج التأهيل المهني والتعليم المجتمعي.

  • المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)

تعميم الحماية الاجتماعية لتشمل كل المواطنين تدريجيًا.

إدماج مؤشرات الأمن الاجتماعي ضمن عملية إعداد الموازنة الوطنية.

مراجعة الأداء العام وتحديث السياسات بناء على الواقع السكاني والتحولات الاقتصادية.

سادسًا: الأمن الاجتماعي كشرط تأسيسي لعقد وطني متوازن

في الدولة التي يسقط فيها المواطن تحت خط الكرامة، تسقط الدولة تحت خط الشرعية.

ولذلك، فإن الأمن الاجتماعي ليس مجرد بند خدماتي، بل هو حجر أساس في بناء السيادة الوطنية، وحماية الوحدة المجتمعية، وإطلاق نهضة مستدامة.

وفي سوريا الجديدة، لن يُقاس الأمن بقوة الأجهزة، بل بقوة الثقة. ولن تُقاس الدولة بمقدار ما تأخذه من المواطن، بل بما تضمنه له من حقوق أساسية.