web analytics
القسم العاشر – الباب الرابع

الفصل الرابع عشر هيئات الرقابة والتقييم الاستراتيجي

من التقارير إلى التصحيح العملي

بناء منظومة رقابية وطنية فعّالة تستند إلى الشفافية وتحوّل التقييم من أداة إدارية إلى استراتيجية تصحيح مستدام

 أولًا: الإشكالية – من رقابة التزيين إلى غياب الرقابة

في النظام السوري القديم، لم تكن الرقابة سوى أداة شكلية أو انتقائية، تُستخدم لتصفية الحسابات السياسية أو تزيين التقارير السنوية، دون أن يكون لها أي وظيفة بنيوية في تصحيح السياسات أو تقييم الأداء.

وقد أدى ذلك إلى:

غياب أي مؤسسات رقابة مستقلة فعلًا.

استبدال الرقابة بالولاء، والتقييم بالمحاباة، والمساءلة بالانتقام.

تحوّل التقارير الحكومية إلى وثائق تبرير وتضليل، لا أدوات تحليل وإصلاح.

وانتهى الحال إلى نظام إداري مغلق، متضخم، غير خاضع لأي رقابة حقيقية أو شفافية، مما أفرز بيئة فساد عميق، وفقدان ثقة كامل بين المواطن والدولة.

 ثانيًا: التحديات أمام إنشاء منظومة رقابية استراتيجية

انعدام الثقافة المؤسسية للتقييم الذاتي والمحاسبة الداخلية.

الدمج التاريخي بين الأجهزة الرقابية والسلطة التنفيذية، ما أفرغ الرقابة من معناها.

ضعف الكوادر، وانعدام الاستقلالية، وغياب الأدوات العلمية للتقييم.

غياب آليات متابعة تنفيذ التوصيات، مما يُحوّل الرقابة إلى أرشيف لا فاعلية له.

تحوّل التقييم إلى أداة إذلال للفئات الضعيفة، وتواطؤ مع الفئات النافذة.

 ثالثًا: الرؤية الجديدة – الرقابة كجزء من السيادة والإصلاح المستدام

في مشروع النهضة السورية، تُبنى الرقابة والتقييم كركائز جوهرية من ركائز السيادة والتنمية المستدامة، بحيث:

لا تُختزل الرقابة في التوثيق، بل تتحول إلى محرّك مستمر للتصحيح والتحسين.

لا تكون الرقابة سيفًا فوق الموظف، بل شريكًا في تحسين الأداء والنتائج.

يتحوّل التقييم من محاسبة لحظية إلى تحليل استراتيجي للسياسات العامة والقرارات.

 رابعًا: خطوات العمل لتأسيس منظومة وطنية للرقابة والتقييم الاستراتيجي

1. إعادة بناء الهيئات الرقابية على أساس الاستقلالية والفاعلية

إنشاء هيئة رقابة عليا مستقلة دستوريًا عن السلطة التنفيذية، ترتبط مباشرة بالبرلمان.

توحيد المرجعيات الرقابية في مؤسسات متخصصة (المالية – الإدارية – البيئية – الخدمية).

فرض معايير مهنية دقيقة لتعيين الكوادر الرقابية، مع نظام حماية للمبلّغين عن الفساد.

2. اعتماد آليات تقييم استراتيجية شاملة ومستمرة

تحويل التقييم من مراجعة ملفات إلى مراجعة سياسات ومخرجات ومؤشرات أثر.

إنشاء نظام وطني للتقييم الدوري لكل مؤسسة عامة على مستوى: الكفاءة – الفعالية – النزاهة – التشاركية – الاستجابة.

إدراج التقييم كمكوّن إلزامي في جميع الخطط الحكومية والاستراتيجيات العامة.

3. دمج المجتمع في الرقابة التشاركية

منح المنظمات المجتمعية الحق في طلب مراجعة أداء الجهات العامة.

إطلاق منصات إلكترونية لتقديم الشكاوى والمقترحات وتتبّعها بشفافية.

تفعيل مبدأ “الموازنة التشاركية” حيث يشارك المواطن في مراجعة إنفاق الدولة.

4. تحويل التقارير الرقابية إلى أدوات قرار وإصلاح

إلزام الحكومة ببيان رسمي سنوي يوضح كيف تعاملت مع ملاحظات وتوصيات الجهات الرقابية.

منح البرلمان سلطة مساءلة الحكومة مباشرة بناء على التقارير الرقابية المستقلة.

إنشاء لجان متابعة تنفيذ داخلية في كل وزارة، ترتبط بهيئات الرقابة المركزية.

5. تطوير البنية المعلوماتية للرقابة والتقييم

بناء نظام بيانات رقمي وطني يربط جميع الوزارات بهيئات الرقابة.

استخدام الذكاء الاصطناعي والتحليلات التنبؤية لرصد الاختلالات مبكرًا.

تطوير لوحة قيادة وطنية حية لمراقبة أداء القطاعات والمؤسسات في الزمن الحقيقي.

 خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية

  • المرحلة الأولى (أشهر 0–12)

إقرار قانون الهيئة العليا للرقابة والتقييم الاستراتيجي.

دمج الهيئات الرقابية المشتتة ضمن جهاز وطني موحّد.

إنشاء قاعدة بيانات وطنية لربط الأداء بالمحاسبة.

  • المرحلة الثانية (سنة 1–3)

إطلاق التقييم المؤسسي الأول للوزارات الكبرى.

نشر أول تقرير وطني حول الأداء الحكومي بناءً على معايير علمية واضحة.

إدماج الموازنة التشاركية في البلديات الكبرى كمشروع نموذجي أولي.

  • المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)

تحويل التقييم إلى مسار مستدام ضمن جميع عمليات التخطيط وصنع القرار.

مأسسة الشراكة بين الرقابة الحكومية والمجتمع المدني.

استخدام مخرجات الرقابة لتعديل السياسات لا فقط تقييمها.

 سادسًا: الرقابة بوصفها أخلاق الدولة وعقلها العملي

في سوريا الجديدة، لن تكون الرقابة أداة رعب ولا ذريعة انتقام، بل منظومة أخلاقية–مؤسسية تؤسس لسلطة القانون، وتحمي المال العام، وتصوّب السياسات، وتحمي الدولة من الانهيار البطيء أو الانحراف التدريجي.

الرقابة ليست طرفًا خارجيًا، بل هي ضمير الدولة العملي، وميزان عدالتها الإدارية، وحصنها من الفساد، وأداة تطورها الداخلي.