web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الأول

الفصل الأول مفهوم النهضة كفعل تاريخي

من البناء المفاهيمي إلى الإرادة السيادية

مقدمة تمهيدية

لا تبدأ النهضة من السياسات، بل من الوعي، ولا تنبع من الخارج، بل من قرار داخلي يعيد تعريف المصير والجدوى والغاية.
وهذا الفصل يفتح الطريق أمام الانتقال من مفهوم النهضة كمجرد أمنية أو خطاب، إلى النهضة كفعل تاريخي نابع من فهم متجذّر للواقع، ومن إرادة سيادية تصنع معناها الخاص.

فليس المقصود إعادة استنساخ نماذج خارجية، بل بناء مشروع وطني نهضوي يُعبّر عن الذات السورية، ويستند إلى خصوصيتها، ويُنتج فعله انطلاقًا من إدراكه لمعنى السيادة، والكرامة، والمصير المشترك.

أولًا – تفكيك المفهوم التقليدي للنهضة: أزمة الاستنساخ وفشل النماذج المستوردة

عندما تُطرح فكرة النهضة في الخطابات الفكرية والسياسية، كثيرًا ما يُعاد ترديد مفاهيم مأخوذة من سياقات غير سورية، سواء من تجارب النهضة الأوروبية، أو محاولات النهوض القومي في المشرق، أو المشاريع الإسلامية الحركية.
لكنّ هذه النماذج، على تعددها، عجزت عن التحقق في سوريا، لا بسبب ضعف الفكرة بحدّ ذاتها، بل لأنها جاءت إمّا مستوردة من واقع مختلف، أو محمّلة بأجندات فوق وطنية، أو منفصلة عن البنية الاجتماعية والسياسية السورية، أو لأنها ببساطة لم تُبنَ على فهم حقيقي للذات السورية وظروفها.

لقد سعت الأنظمة إلى استخدام مفردات النهضة كأدوات دعائية لا كتحولات حقيقية. فكان البعث يرفع شعار “الوحدة والحرية والاشتراكية” دون أن يُحقق أياً منها، فيما استنسخت التيارات الإسلامية نموذج “الخلافة” أو “الحكم بشرع الله” دون تقديم مشروع مؤسساتي أو اجتماعي قابل للحياة، بينما علّقت المعارضة الليبرالية آمالها على الغرب دون قاعدة مجتمعية راسخة أو فهم لموازين القوة.

والنتيجة كانت واحدة: نهضات معلّقة، إما وهمية أو متناقضة مع الواقع.

ثانيًا – مكونات النهضة: بين الوعي والإرادة والفعل

النهضة ليست مجرد خطة حكومية، ولا إصلاحًا إداريًا، ولا إعادة إعمار مادي، بل هي تحوّل بنيوي شامل، يبدأ من الوعي وينتهي بالفعل.

ولكي تكون النهضة فعلًا تاريخيًا فعليًا، لا بد أن تتكامل فيها ثلاثة عناصر أساسية:

الوعي: أي إدراك المجتمع لذاته، لتاريخه، لمشاكله، لإمكاناته، ولما يُراد له أن يكون. فبدون هذا الوعي، يتحول أي مشروع إلى تكرار للانحدار نفسه بأدوات جديدة.

الإرادة: وهي نقطة التحول من الإدراك إلى القرار. الإرادة الجماعية ليست شعارًا، بل تُبنى عبر الثقة، والتمثيل، ووضوح المشروع، وارتباطه بالحاجات العميقة للناس.

الفعل: وهو تحويل هذه الإرادة إلى أدوات، ومؤسسات، وقرارات، وإجراءات، تُنتج التحول لا على الورق، بل في بنية الدولة، وفي حياة المواطن اليومية.

هذه العناصر الثلاثة لا تُستورد، ولا تُمنح، بل تُنتَج وطنيًا، من داخل التجربة السورية، ومن خلال مشروع يدمج البنية السيادية للدولة مع التمكين الفعلي للناس.

ثالثًا – التمييز بين النهضة كخطاب والنهضة كتحول بنيوي

كثيرون يتحدثون عن النهضة كخطاب تحفيزي، مليء بالشعارات الكبرى، والوعود المستقبلية، دون أن يتجاوزوا مرحلة الشعور بالخيبة أو الحنين للماضي.

لكنّ النهضة الحقيقية ليست مشروعًا لغويًا أو استعاديًا، بل تحوّلًا في البنية العميقة للدولة والمجتمع.

إنها لا تعني فقط تحسين الخدمات، بل تحرير القرار السيادي، وبناء مؤسسات شرعية وفاعلة، وإعادة توزيع السلطة والمعنى والثروة بطريقة عادلة.

النهضة، بهذا المعنى، ليست “مرحلة” يمكن أن تضاف إلى الوضع القائم، بل هي قلب كامل للمنطق السياسي والاجتماعي الذي حكم سوريا لعقود، وتحويل شامل في العلاقة بين المواطن والدولة، بين الداخل والخارج، بين الممكن والمفروض.

رابعًا – النهضة السورية كفعل سيادي تحرري

في سياقنا السوري، لا يمكن للنهضة أن تتحقق ما لم تُبْنَ أولًا على مفهوم السيادة بوصفها إرادة داخلية حرّة، لا مجرد موقف سياسي أو مبدأ قانوني.

فالنهضة التي نسعى إليها ليست “تحديثًا للنظام” ولا “إصلاحًا تحت السقف”، بل هي عملية تحرر مزدوجة:

تحرر من التبعية الخارجية، بكل أشكالها الناعمة والخشنة.

وتحرر من البنية السلطوية التي حوّلت الدولة إلى ساحة احتكار وقمع واستلاب.

ولأن هذه النهضة لا تتطلّب فقط تغيير النظام، بل تغيير شروط الإنتاج السياسي والاجتماعي نفسه، فإنها تُبنى على قاعدة المشاركة الشعبية، والتمثيل الحقيقي، والانتماء الوطني غير المؤدلج.

إنها مشروع استعادة المعنى، وبناء دولة تخدم الإنسان لا تستعبده، وتُنتج قوتها من إرادتها لا من ارتهانها، وتُفعّل كل مكوّن من مكوّناتها في خدمة سيادتها الجامعة.

خاتمة الفصل

النهضة، في جوهرها، ليست حلماً طوباوياً ولا مرحلة انتقالية، بل فعلًا سياديًا واعيًا يُعيد لسوريا حقها في أن تكون فاعلة في التاريخ، لا ساحة مفتوحة له.

إنها جواب على سؤال الوجود، لا على سؤال التنمية فقط، وهي مشروع للكرامة والسيادة بقدر ما هي مشروع للإصلاح والبناء.

ومن هذا الفهم، تنطلق الرؤية الاستراتيجية لمشروع النهضة، كما ستُفصَّل في الفصول اللاحقة، لتتحول المفاهيم إلى خطط، والخطط إلى فعل، والفعل إلى مصير قابل للحياة.