web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الثاني

الفصل التاسع تأسيس الشرعية الجديدة

من الإرث السلطوي إلى العقد التشاركي

مقدمة تمهيدية

لم تكن الشرعية في سوريا نتاجًا لعقد حر بين الدولة والمجتمع، بل نتيجة القوة، والغلبة، والمصادرة.
وقد بُنيت على إرث سلطوي زائف، يستمد وجوده من السيطرة لا من التمثيل، ومن الخوف لا من الرضا.

واليوم، مع تصدّع هذا الإرث وانكشاف زيفه، تُطرح مهمة تأسيس شرعية جديدة لا تُبنى على السلاح أو الخارج، بل على عقد تشاركي وطني يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والشعب، ويمنح الدولة معناها، والمواطن وزنه، والسيادة جذورها.

أولًا: سقوط شرعية الغلبة: الأزمة البنيوية في المشروعية السياسية

لقد اعتمد النظام السوري، لعقود، على ثلاث روافع لشرعيته الزائفة:

القوة العسكرية والأمنية، بوصفها مصدرًا للسيطرة.

الخطاب القومي المقاوم، بوصفه غطاءً وطنيًا.

التزوير المؤسسي (انتخابات، دساتير، برلمانات) بوصفه ديكورًا للسلطة.

لكن كل هذه الروافع تهاوت:

فسقط العنف أمام الفوضى،

وسقط الخطاب أمام التحالفات الخارجية المشبوهة،

وسقطت المؤسسات أمام عجزها الفاضح عن التعبير عن أي مصلحة عامة.

وبهذا، انتهت الشرعية السلطوية، وبقي السؤال مفتوحًا: على أي أساس تُبنى الشرعية الجديدة؟

ثانيًا – مفهوم الشرعية في مشروع النهضة

الشرعية ليست فقط الحق في الحكم، بل الاعتراف المجتمعي بهذا الحق، وهي لا تُمنح، ولا تُفرض، بل تُنتَج من التفاعل الحر بين السلطة والمجتمع.
وفي المشروع النهضوي، تقوم الشرعية على أربع ركائز:

العقد الاجتماعي التشاركي، الذي يُنظّم العلاقة بين المواطن والدولة على أسس رضائية واضحة.

التمثيل السياسي الحقيقي، عبر انتخابات حرة، ومؤسسات شفافة، وآليات مساءلة.

الخدمة العامة والعدالة الاجتماعية، بوصفها التعبير العملي عن التزام الدولة تجاه المجتمع.

السيادة والاستقلال الوطني، لأن الشرعية لا تنفصل عن الحرية، ولا تُبنى على الإملاء الخارجي.

ثالثًا: من الإرث السلطوي إلى العقد التشاركي

الانتقال من شرعية القوة إلى شرعية العقد يقتضي تفكيك الأسس التي قام عليها النظام السابق، وتأسيس شرعية تقوم على:

تداول السلطة لا تخليدها.

إرادة الناس لا إرادة الأجهزة.

المساءلة لا الحصانة.

التمثيل لا التفويض المطلق.

الاستقلال لا التبعية.

وهذا العقد لا يُبنى في الدساتير وحدها، بل في وعي الناس، وفي مؤسساتهم، وفي الممارسة اليومية للسلطة.

رابعًا: مكونات الشرعية الجديدة: التشارك، الرضا، المصلحة العامة

إن الشرعية الحقيقية لا تأتي من الأيديولوجيا، بل من الرضا الشعبي والمصلحة العامة.
ولهذا، يجب أن تتأسس الدولة على قاعدة:

شراكة حقيقية في القرار،

احترام للمواطنة المتساوية،

توزيع عادل للثروات،

وارتباط عضوي بين الشرعية والسيادة.

الشرعية لا تكون فقط قانونية، بل سياسية وأخلاقية واجتماعية، ولا يمكن أن تستقيم دون شعور المجتمع بأن له حصة فعلية في الحكم، وفي القرار، وفي المصير.

خامسًا: حماية الشرعية من التآكل: الدستور والرقابة والمشاركة

حتى لا تتآكل الشرعية الجديدة كما تآكلت القديمة، يجب أن تُصان عبر:

دستور تأسيسي توافقي، لا مفروض، يُلزم الدولة والمجتمع على حد سواء.

آليات رقابية مستقلة، تمنع التسلط، وتكشف الفساد، وتحمي حقوق الناس.

مؤسسات تمثيلية حيّة، تُجدد باستمرار، وتعبّر عن واقع المجتمع لا عن نخبه المغلقة.

تربية سياسية مدنية، تُعيد الاعتبار للشرعية كمسؤولية متبادلة، لا كموقع للهيمنة.

خاتمة الفصل

الشرعية ليست قيدًا على الدولة، بل مصدر قوتها.

وحين تُبنى على التشارك، والمساءلة، والمصلحة الوطنية، تصبح الشرعية ركنًا من أركان السيادة، وضامنًا للاستقرار، وأساسًا لبناء دولة لا تعيش فقط في النصوص، بل في ضمير الناس، وفي سلوك المؤسسات، وفي حيوية المجال العام.
وهذا هو ما يمنح مشروع النهضة معناه الحقيقي: أن يكون مشروعًا لشرعية جديدة، تصنعها الإرادة الحرة، وتصونها المشاركة الحيّة.