القسم الحادي عشر – الباب الثالث
الفصل الثالث عشر الأمن القومي السيادي
من الردع الكلاسيكي إلى منظومة الحماية الشاملة
مقدمة تمهيدية
الأمن القومي ليس مجرد معادلة تسليحية، ولا يُختزل في حدود الجيوش أو أجهزة المخابرات، بل هو تعبير شامل عن قدرة الدولة والمجتمع على حماية الذات والسيادة والقرار في مواجهة التهديدات بكافة أشكالها: العسكرية، السياسية، الاقتصادية، النفسية، الثقافية، والرمزية.
وفي السياق السوري، حيث تآكلت الدولة، وتمزق المجتمع، وتعددت أشكال الاحتلال والاختراق، فإن الحديث عن “أمن قومي سيادي” لا يمكن أن يعود إلى منطق الردع التقليدي، بل يجب أن يُعاد تأسيسه ضمن منظومة حماية شاملة، تمتد من الجبهة إلى الوعي، ومن الحدود إلى المجال الرمزي، ومن الجيش إلى المواطن.
أولًا – اختزال الأمن القومي وأزمة الفهم السلطوي
عانى مفهوم الأمن القومي في سوريا من اختزالين قاتلين:
الاختزال السلطوي: حيث جرى تحويل “الأمن القومي” إلى غطاء لتوسيع نفوذ أجهزة القمع، وربط وجود الدولة ببقاء النظام، وتم تعميم ثقافة الشك والعداء الداخلي، فبات الخطر الحقيقي يُختلق من الناس لا من الخارج.
الاختزال العسكري: حيث حُصر الأمن في موازين القوة الصلبة، وتم تجاهل البنى الناعمة التي تُحدث الاختراق الحقيقي: الإعلام، التعليم، الاقتصاد، الثقافة، التكنولوجيا، والهوية.
والنتيجة كانت سقوط الدولة في لحظة تهديد حقيقية، رغم أنها كانت ترفع شعار الأمن ليل نهار.
ثانيًا – من منطق الردع إلى منطق الحماية السيادية
منظومة الأمن القومي الجديدة يجب أن تنتقل من:
الردع الأحادي إلى الحماية المركبة.
الترهيب الداخلي إلى التحصين المجتمعي.
احتكار الأجهزة إلى مأسسة الوظيفة الأمنية ضمن دولة القانون.
الجمود العسكري إلى المرونة الاستراتيجية متعددة المستويات.
وهذا يتطلب أن يُعاد تعريف الأمن بوصفه:
القدرة المنظمة للدولة والمجتمع على منع التهديدات، وامتصاص الصدمات، واستعادة السيطرة، دون خيانة القيم أو فقدان السيطرة على المصير.
ثالثًا – مكونات منظومة الأمن القومي السيادي
الردع الوطني: بناء قوة ردع دفاعية لا هجومية، متكاملة عسكريًا وتقنيًا، تعتمد على الكفاءة والجاهزية لا فقط على العدد والعتاد.
الأمن المجتمعي: تعزيز التماسك الداخلي، وبناء الثقة، وتجفيف بؤر النزاع والكراهية، وتحويل المواطن إلى شريك لا هدف للمراقبة.
الأمن المؤسسي: حماية مؤسسات الدولة من التآكل، والفساد، والانقسام، والتفكك، عبر الحوكمة والمساءلة والشفافية.
الأمن السيبراني والرقمي: منع الاختراق التكنولوجي والاستخباري، وحماية البنية التحتية الرقمية للدولة والمجتمع.
الأمن الرمزي والروحي: مواجهة الحروب النفسية والإعلامية والرمزية، التي تهدف إلى تفريغ المعنى وتشويه الهوية وتحطيم الثقة.
الأمن الاقتصادي: بناء قواعد إنتاج واستقلال اقتصادي تمنع الابتزاز المالي، وتُعزّز المنعة الاجتماعية.
رابعًا – إعادة هيكلة المنظومة الأمنية في الدولة الجديدة
الأمن السيادي لا يمكن أن يُبنى دون تفكيك المنظومة القديمة التي:
ربطت الأمن ببقاء النظام لا بسلامة الوطن.
استخدمت المؤسسات الأمنية لتصفية الخصوم لا لحماية المجتمع.
قامت على الولاء الشخصي لا على الكفاءة المؤسسية.
خلقت شبكات موازية للدولة تحت مسمى “أمن الدولة”.
ولذلك، لا بد من:
إعادة تعريف الوظيفة الأمنية دستوريًا.
تطهير الأجهزة من الولاءات الشخصية والانتهاكات.
دمج الأمن ضمن بنية الدولة القانونية والمؤسسية.
وضع رقابة مدنية وتشريعية على عمل الأجهزة، دون الإخلال بفاعليتها.
خامسًا – التكامل بين الدولة والمجتمع في حماية الأمن القومي
في نموذج الأمن القومي السيادي، لا تكون الدولة وحدها هي “الحارس”، بل يُعاد بناء عقد ثقة بينها وبين المجتمع، ليُصبح المواطن:
مشاركًا في الإبلاغ عن التهديدات،
محصنًا وواعيًا أمام الإشاعات والاختراقات،
مستفيدًا من الأمن لا ضحيته،
منتميًا إلى دولة تحميه وتحترمه.
وهذا لا يتحقق إلا حين يُنظر إلى الأمن كوظيفة مدنية كبرى، لا كأداة سيطرة.
خاتمة الفصل
إن بناء منظومة الأمن القومي السيادي هو حجر الزاوية في صيانة مشروع النهضة، ليس لحمايته من الخارج فقط، بل لحمايته من الانقلاب عليه من داخله.
فالأمن لا يعني فقط عدم الخوف، بل القدرة على مواصلة العيش الحرّ، والمشاركة، والبناء، دون تهديد أو إذلال.
وحين يُعاد بناء الأمن بوصفه مسؤولية وطنية لا سلاحًا سلطويًا، تُولد الدولة الجديدة: قوية بلا طغيان، ومهابة بلا قمع، ومنيعة دون أن تكون سجينة.