web analytics
القسم الحادي عشر – الباب الرابع

الفصل الثاني والعشرون الشراكات الاستراتيجية البديلة

جنوب–جنوب والمجتمعات الصاعدة

مقدمة تمهيدية

في ظل نظام دولي تتصدّعه التوازنات التقليدية، وتُعاد فيه صياغة مراكز النفوذ والثروة، لم يعد الرهان الحصري على “الغرب” أو القوى الكبرى التقليدية كافيًا لتحقيق المصالح الوطنية.

ولذلك، يُعيد مشروع النهضة في سوريا النظر في خريطة العلاقات الدولية، ساعيًا إلى بناء شراكات استراتيجية بديلة، منفتحة على جنوب العالم، والمجتمعات الصاعدة، والقوى التي تسعى إلى توازن عالمي جديد، شراكات تُبنى لا على وهم “التمرد الجغرافي”، بل على تحالف الندّية، والمعرفة، والموارد، والمصالح المتقاطعة.

وهذا التوجّه لا يعني القطيعة مع الغرب، بل تحرير القرار من أحادية الاعتماد، وتنويع مصادر القوة والتعاون، وبناء جسور مع من يشارك سوريا قيم السيادة، والتنمية العادلة، والاحترام المتبادل.

أولًا: من تبعية الشمال إلى توازن الجنوب: كسر المعادلة الكلاسيكية

لسنوات، استُدرجت الدول النامية إلى نموذج “التنمية المشروطة”، حيث:

يُمنح الدعم مقابل “الإصلاح السياسي” وفق رؤية خارجية.

تُفتح الأسواق مقابل تحويل الاقتصاد إلى خدمة لمراكز الإنتاج الغربية.

يُعاد تشكيل المجتمع وفق سرديات “التحول الديمقراطي النخبوي” المرتبط بالتمويل.

يُرهن القرار السيادي بالمساعدات، وتُدار السياسات العامة بوصفات مؤسسات مالية دولية.

أما الآن، فقد بدأت تتشكل كتلة عالمية جديدة: قوى صاعدة في أفريقيا، آسيا، وأميركا اللاتينية، تسعى إلى إعادة تعريف التنمية، والتحالف، والسيادة، بوصفها نتاجًا للعدالة لا للتبعية.

ثانيًا: لماذا الشراكات البديلة؟

في الحالة السورية، تُصبح الشراكات مع قوى الجنوب والمجتمعات الصاعدة خيارًا استراتيجيًا للأسباب التالية:

رفض مشترك للتدخل الخارجي والوصاية السياسية.

وجود تجارب تنموية ناجحة دون انحياز أيديولوجي (الهند، البرازيل، إندونيسيا، جنوب أفريقيا، ماليزيا).

إمكانية التعاون في مجالات متكاملة: الزراعة، الصحة، التعليم، الصناعة، الطاقة، المعرفة الرقمية.

تطابق التحديات الكبرى: ما بعد الاستعمار، إعادة بناء الدولة، إدارة التنوع، مقاومة التبعية المالية.

السعي إلى بناء نموذج تنموي بديل يدمج السيادة الاقتصادية مع العدالة الاجتماعية.

ثالثًا: مداخل الشراكة مع الجنوب الصاعد

أ. المجال الاقتصادي

التعاون في مجال الزراعة والصناعات التحويلية، بعيدًا عن شروط التبادل غير المتكافئ.

الاستفادة من خبرات دول الجنوب في التصنيع المحلي، وإدارة الموارد الطبيعية، ومشاريع الطاقة المتجددة.

الانخراط في شبكات الاستثمار المتبادل، والتمويل غير التقليدي (مثل بنك التنمية التابع للبريكس).

ب. المجال التعليمي والمعرفي

الشراكة مع دول تمتلك نماذج تعليمية مناسبة للبيئات النامية، مثل الهند وكوبا.

برامج تبادل أكاديمي وثقافي تعزز استقلال المعرفة من الهيمنة الغربية.

الاستثمار في المشاريع التكنولوجية الناشئة عبر التعاون مع آسيا وأفريقيا.

ج. المجال السياسي–الدبلوماسي

بناء كتلة تفاوض دولية مع دول تتشارك قضايا السيادة، ورفض الأحادية القطبية، ودعم التعددية القطبية العالمية.

إطلاق منتديات إقليمية–جنوبية لمناقشة إعادة إعمار الدول الخارجة من الصراعات، والتعاون التنموي العادل.

رابعًا: التحول من التابع إلى الندّ: شروط نجاح الشراكات البديلة

لكي لا تتحوّل هذه الشراكات إلى تبعية جديدة أو شعارات فارغة، يجب أن تتوفر:

رؤية استراتيجية سورية واضحة حول المجالات والمصالح المراد تحقيقها.

قدرة مؤسسية على التفاوض والتخطيط وتنفيذ المشاريع المشتركة.

إرادة سيادية تحكم العلاقة على قاعدة التكافؤ لا الاستقواء باسم “الجنوب”.

تحصين داخلي سياسي واقتصادي يضمن استفادة عادلة وواقعية من هذه الشراكات.

دمج هذه العلاقة ضمن استراتيجية وطنية شاملة لبناء القوة الناعمة والسيادية في آن.

خامسًا: نحو تكتل دولي جديد: سوريا بوصفها فاعلًا لا مُدارًا

ليست المسألة هنا فقط في استبدال الشمال بالجنوب، بل في توسيع أفق الفعل السياسي السوري بحيث:

لا يُختزل الحضور الخارجي في باب الديون والمساعدات،

ولا تُختصر السيادة في مقاومة قوى وتبرير قوى أخرى،

بل تُصبح سوريا جزءًا من مشروع عالمي لإعادة بناء شرعية الدولة في العالم الجنوبي، وتقديم نموذج نهضوي غير تابع، لا أيديولوجيًا ولا اقتصاديًا.

خاتمة الفصل

الشراكات الاستراتيجية البديلة ليست ردة فعل على الاستعمار أو وصاية الغرب، بل خيار وطني لبناء شبكة دعم سيادية تؤسس لقوة متكاملة، أخلاقية، تنموية، وسياسية.

وسوريا، التي دفعت ثمن تموضعها القسري داخل محاور لا تمثل مصالح شعبها، تستطيع اليوم أن تُعيد تموضعها على خريطة العالم كدولة ذات مشروع، وحلفاء، وكرامة مستقلة.

إنه انفتاح لا يبحث عن عدو بديل، بل عن شريك جديد يُقاس بالاحترام المتبادل لا بحجم النفوذ.