القسم الثاني عشر – الباب الثاني
الفصل التاسع هندسة العلاقات السورية–الروسية
بين الضرورة الجيوسياسية واستعادة السيادة
تمهيد
في قلب التحولات الكبرى التي شهدتها الساحة السورية خلال العقود الماضية، برزت روسيا كفاعل رئيسي، فرض نفسه عسكريًا وسياسيًا منذ التدخل المباشر في عام 2015.
وبينما شكّل الدعم الروسي لحظة مفصلية في منع سقوط النظام السابق، إلا أنه أنتج أيضًا معادلة معقدة للعلاقة السورية–الروسية، قائمة على مزيج من الاعتماد والحاجة، ومن القيود السيادية والتحديات الوطنية.
اليوم، ومع انطلاق مشروع النهضة وبناء الدولة السورية الجديدة، يصبح من الضروري إعادة هندسة هذه العلاقة بما يضمن الحفاظ على المكتسبات الاستراتيجية، دون الارتهان السياسي، وبما يحقق التوازن بين متطلبات الجغرافيا السياسية ومقتضيات الاستقلال الوطني.
أولًا: السياق التاريخي للعلاقة السورية–الروسية
التحالف التقليدي مع الاتحاد السوفيتي
تأسست العلاقات السورية–السوفيتية على قواعد الدعم العسكري والاقتصادي في مواجهة المشروع الغربي والإسرائيلي.
كانت سوريا خلال الحرب الباردة من أبرز حلفاء موسكو في الشرق الأوسط.
المرحلة الانتقالية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي
شهدت العلاقات فترة فتور نسبي، قبل أن تعود موسكو لبناء نفوذها تدريجيًا مع بدايات القرن الجديد، خاصة عبر اتفاقيات تسليحية وإعادة تموضع سياسي.
مرحلة التدخل العسكري المباشر (2015)
مثّل التدخل الروسي نقطة انعطاف حادة، حيث فرضت روسيا حضورها كضامن أساسي لبقاء النظام، وكفاعل مباشر في إدارة النزاع السوري.
المرحلة الراهنة: ما بعد انهيار النظام القديم
مع انهيار النظام الأسدي، تجد روسيا نفسها مضطرة لإعادة صياغة مقاربتها، إما بالشراكة مع مشروع النهضة الجديد، أو بالمخاطرة بفقدان استثمارها الاستراتيجي.
ثانيًا: أبعاد العلاقة الراهنة بين سوريا وروسيا
البعد العسكري
وجود قواعد روسية كبرى في طرطوس وحميميم.
دور روسي مباشر في تدريب بعض القوات، وتأثير على قطاعي الدفاع والأمن.
البعد السياسي
محاولات روسية لدعم مسارات سياسية تراعي مصالحها بالدرجة الأولى.
السعي إلى تثبيت نفوذها عبر فرض رؤى دستورية وتسويات جزئية.
البعد الاقتصادي
عقود استثمارية طويلة الأمد في مجالات النفط والغاز والفوسفات والموانئ.
سعي روسي للهيمنة على بعض مفاصل الاقتصاد السوري كتعويض عن الكلفة العسكرية والسياسية.
البعد الدبلوماسي
استخدام الملف السوري كورقة تفاوضية مع الغرب، سواء في العقوبات أو في قضايا أمنية أوسع.
ثالثًا: المخاطر الناجمة عن استمرار نمط العلاقة الراهن
انتقاص السيادة الوطنية
استمرار السيطرة أو التأثير الروسي على القرار السيادي السوري يعطل بناء دولة مستقلة فعليًا.
التأزيم مع الأطراف الدولية والإقليمية
الارتباط المفرط بموسكو يعيق الانفتاح السوري على الغرب وبعض الدول العربية.
الاستنزاف الاقتصادي
العقود المجحفة واتفاقيات الاستثمار غير المتوازنة تؤدي إلى تآكل الموارد الوطنية.
الارتهان في التوازنات الجيوسياسية
وضع سوريا في موقع التبعية ضمن لعبة توازنات دولية لا تتحكم هي في مخرجاتها.
رابعًا: المبادئ الموجهة لإعادة بناء العلاقة مع روسيا
التعامل الواقعي مع الجغرافيا السياسية
روسيا باقية كلاعب دولي مهم في سوريا، لكن يجب إعادة تعريف العلاقة بشكل شفاف ومحدد.
استعادة السيادة التدريجية
تفكيك التداخل الروسي في القرار الوطني السوري عبر استعادة السيطرة على قطاعات حيوية، مع التفاوض الذكي على تقليص النفوذ العسكري.
إعادة هيكلة العقود الاقتصادية
مراجعة كافة الاتفاقيات التجارية والاستثمارية لإعادة التوازن وتحقيق مصلحة سوريا الوطنية أولًا.
استثمار روسيا كشريك لا كراعٍ
التعامل مع روسيا كشريك في ملفات محددة (مثل مكافحة الإرهاب، إعادة الإعمار) دون السماح لها بالتحول إلى وصي سياسي.
تنويع الحلفاء وعدم الارتهان
فتح قنوات شراكة متوازنة مع أطراف عربية وغربية وشرقية أخرى لضمان حرية القرار الوطني.
خامسًا: أدوات هندسة العلاقة الجديدة
التفاوض الدبلوماسي الذكي
بناء فريق مفاوضات متخصص يجيد مخاطبة الروس بلغة المصالح الواقعية والخيارات البديلة.
الاستفادة من تناقضات السياسة الروسية
روسيا دولة براغماتية تبحث عن المصالح، ويمكن لسوريا الجديدة أن توظف ذلك لصالحها، عبر تقديم بدائل واقعية عن الارتهان الكامل.
إعادة ترتيب الوجود العسكري
التفاوض على تحويل القواعد العسكرية إلى مراكز تدريب مشتركة أو منشآت تجارية مستقبلية، تحت السيادة السورية.
تحقيق توازن بين المصالح الروسية والمصالح الوطنية
قبول التعاون في ملفات معينة مقابل تحرير قطاعات أخرى من الهيمنة.
ترسيخ الخيار العربي–الإقليمي كخيار استراتيجي
استخدام الانفتاح العربي كسلاح تفاوضي للحد من الاعتماد الأحادي على موسكو.
سادسًا: خارطة الطريق العملية
مراجعة شاملة لكل الاتفاقيات والعقود مع روسيا خلال مرحلة النظام السابق.
التفاوض على تعديل شروط التموضع العسكري الروسي.
إطلاق مبادرات اقتصادية بديلة لاستقطاب استثمارات عربية وغربية.
بناء تحالفات دبلوماسية تعزز الاستقلال السوري أمام النفوذ الخارجي.
تطوير استراتيجية إعلامية تبرز استقلالية القرار السوري الجديد أمام الشعب وأمام المجتمع الدولي.
خاتمة
إن العلاقة مع روسيا يجب ألا تكون عبئًا على مشروع النهضة، بل رصيدًا داعمًا ضمن معادلة السيادة الوطنية السورية.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر هندسة دقيقة للعلاقة، تدمج الواقعية السياسية بالثبات الوطني، وتجمع بين حفظ المصالح الاستراتيجية وإعادة بناء القرار الوطني الحر.
ففي عالم تتغير توازناته كل يوم، لا مكان للدول التابعة، بل للأمم التي تحسن صياغة علاقاتها على أساس المصالح لا الإملاءات.