القسم الثاني عشر – الباب الثالث
الفصل الرابع عشر العلاقة مع تركيا
من العدوان إلى الهندسة الواقعية للعلاقة
تمهيد:
إذا كانت العلاقة مع إيران اتسمت بالاستتباع العقائدي، فإن العلاقة مع تركيا تحوّلت، بعد عام 2011، من علاقة دبلوماسية–اقتصادية نشطة، إلى حالة عدوان عسكري مباشر واحتلال لأجزاء واسعة من الأرض السورية، واحتضان صريح لمجموعات مسلحة تابعة لأنقرة سياسيًا أو أمنيًا.
فقد تدخلت تركيا في الملف السوري عبر ثلاث قنوات متزامنة:
دعم فصائل المعارضة المسلحة القريبة من توجّهها الإيديولوجي.
التدخل العسكري المباشر واحتلال مناطق واسعة شمالي البلاد.
بناء بنية إدارية–خدمية موازية في تلك المناطق، أدت إلى تشكيل “وضع أمر واقع” يشبه نموذج التتريك التدريجي.
وفي ظل هذا الواقع المعقّد، لا يمكن لسوريا الجديدة أن تتجاهل تركيا، ولا أن تستمر في علاقتها بها ضمن منطق الشك العدائي وحده. بل إن إدارة العلاقة معها تقتضي هندسة دقيقة تأخذ بعين الاعتبار ضرورات الأمن القومي، ومخاطر الانخراط في حروب استنزاف، ومصالح السوريين في الداخل والشتات، وواقع التوازنات الدولية والإقليمية.
ويُعالج هذا الفصل العلاقة مع تركيا من خلال سبعة محاور رئيسية، تُراعي جميع الأبعاد السياسية، الأمنية، الاقتصادية، والواقعية على الأرض.
أولًا: الإطار التاريخي – من التحسن النسبي إلى الانفجار
بين عامي 2004 و2010، شهدت العلاقة بين النظام السوري وتركيا تحسنًا ملحوظًا تمثّل في:
زيارات متبادلة رفيعة المستوى.
اتفاقيات تعاون تجاري واستثماري.
فتح الحدود وتشجيع التبادل الثقافي.
لكن مع اندلاع الثورة السورية، تبنّت أنقرة موقفًا تصعيديًا، وسرعان ما تحوّلت إلى:
راعٍ سياسي وعسكري لفصائل المعارضة.
منبر دولي معادٍ للنظام السابق.
لاعب ميداني مباشر عبر تدخلات عسكرية متعددة منذ عام 2016 (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام).
ثانيًا: الاحتلال التركي المباشر – المساحة والوظيفة والمخاطر
تحتل القوات التركية ومجموعات تابعة لها مناطق سورية واسعة تشمل:
مناطق من ريف حلب (عفرين، الباب، إعزاز).
أجزاء من شمال الرقة والحسكة.
جيوب حدودية على امتداد شريط التماس.
هذا الاحتلال يتخذ طابعًا ثلاثي الوظيفة:
عسكري: قواعد، نقاط مراقبة، انتشار دائم.
إداري: دعم مجالس محلية، مناهج تعليمية، ليرة تركية.
ديموغرافي: عمليات تهجير وتغيير سكاني، خاصة في عفرين.
يجب في الدولة الجديدة:
الاعتراف بواقع الاحتلال بوصفه تهديدًا للسيادة لا يمكن تجاهله.
فتح ملف تفاوض دولي حول جدول الانسحاب التركي، تدريجيًا، بإشراف أممي.
التفريق بين المكوّن التركي الرسمي، والفصائل السورية الموالية له، ووضع مقاربات مختلفة لكل منها.
ثالثًا: الجماعات المسلحة الموالية لأنقرة – الدمج أو التفكيك
دعمت تركيا عددًا من الفصائل المسلحة أبرزها “الجيش الوطني”، و”الجبهة الشامية”، و”أحرار الشرقية”.
هذه الفصائل:
تعتمد تمويلًا وتسليحًا وتوجيهًا تركيًا.
مارست انتهاكات جسيمة بحق المدنيين في مناطق سيطرتها.
تُستخدم أداة سياسية لفرض الوقائع الميدانية.
يجب في الدولة الجديدة:
إصدار موقف واضح باعتبار هذه الجماعات خارج مظلة الشرعية الوطنية.
عرض برامج دمج من يرغب بشروط صارمة، أو تفكيك من يرفض ذلك.
فتح قنوات تفاوض غير مباشر مع أنقرة لتحييد هذه الفصائل ونزع سلاحها تدريجيًا.
رابعًا: ملف الحدود والمخاوف الأمنية التركية – بين الفهم والرفض
تبرّر تركيا تدخلها العسكري بحجة وجود تهديد كردي يتمثل في وحدات حماية الشعب (YPG).
بينما تعتبر هذه الوحدات حليفًا لبعض القوى الغربية، وتتمركز على حدود تركيا.
في الدولة الجديدة:
يجب الاعتراف بمخاوف أنقرة الأمنية دون تحويلها إلى ذريعة لاحتلال دائم.
التفاوض المباشر حول ترتيبات حدودية تضمن الأمن المتبادل.
رفض مشروع “المنطقة الآمنة” التركية بوصفه شكلًا جديدًا من فرض السيطرة والتغيير الديموغرافي.
خامسًا: ملف اللاجئين – من التوظيف إلى التفاهم المشترك
تستضيف تركيا ما يزيد عن 3 ملايين لاجئ سوري، وتستخدم ملفهم في مفاوضاتها مع أوروبا وسوريا.
في الدولة الجديدة:
يُبنى مشروع وطني شامل لعودة اللاجئين تدريجيًا.
يُطرح مع تركيا تفاهم واضح حول العودة الطوعية المحمية للاجئين ضمن ترتيبات قانونية.
تُرفض أي محاولات للضغط أو الإعادة القسرية، أو استثمار ملف اللاجئين كورقة تفاوض سياسي أو اقتصادي.
سادسًا: إعادة ضبط العلاقات الاقتصادية – من التبعية إلى التكافؤ
استغلت أنقرة الانهيار السوري في:
السيطرة على التجارة الحدودية.
التغلغل في الأسواق المحلية ضمن المناطق التي تحتلها.
تحويل بعض المعابر إلى مصادر دخل غير شرعي.
في الدولة الجديدة:
تُنظّم العلاقات التجارية على أساس اتفاقيات رسمية، لا تفاهمات أمنية أو أمر واقع.
يُفرض التعامل بالعملة الوطنية ويُحظر استخدام الليرة التركية داخل الأراضي السورية.
تُفتح قنوات تعاون اقتصادي رسمي مشروط بإعادة العلاقات الدبلوماسية على أساس احترام السيادة.
سابعًا: إعادة تشكيل العلاقة الإقليمية ضمن سياسة جوار عقلانية
تركيا دولة جوار إقليمي لا يمكن تجاوزها، لكنها ليست قوة فوق سيادة سوريا.
تُبنى العلاقة الجديدة معها على قاعدة:
احترام متبادل للحدود والمصالح.
إنهاء الاحتلال والانسحاب من كل الأراضي السورية.
التعاون في ملفات المياه، التجارة، مكافحة الإرهاب، اللاجئين، ضمن اتفاقيات واضحة ومراقبة.
الخروج من حالة “العداء الصريح” إلى “الحياد الصلب” تمهيدًا لعلاقات متوازنة مستقبلًا.
خاتمة الفصل:
لم تكن تركيا فقط طرفًا خارجيًا، بل تحوّلت إلى فاعل مباشر في المشهد السوري، عسكريًا وسياسيًا وديموغرافيًا.
وفي الدولة السورية الجديدة، لا يمكن تجاهل هذا الواقع، ولا القبول باستمراره.
فالعلاقة مع أنقرة لا تُبنى على الثأر، لكنها لا تُعاد بناءها دون تصحيح شامل.
ومن العدوان إلى التفاوض،
ومن الهيمنة إلى التوازن،
تُعاد صياغة العلاقة مع تركيا بوصفها جارة لا وصية،
وبوصف سوريا دولة لا ساحة.