القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل الثاني والعشرون العقوبات الدولية
من العزل إلى التفاوض السيادي
تمهيد:
تُعدّ العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أحد أعقد التحديات التي تواجه الدولة السورية الجديدة. فمنذ عام 2011، ومع تصاعد الانتهاكات الحقوقية والجرائم ضد المدنيين، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى حزمًا متعددة من العقوبات شملت النظام ومؤسساته، ورجال الأعمال المقربين، وقطاعات واسعة من الاقتصاد، لا سيما الطاقة، المصارف، الاتصالات، والتجارة الخارجية.
ورغم أن هذه العقوبات استُهدفت بها سلطة الاستبداد، إلا أن أثرها الفعلي امتد ليصيب بنية المجتمع، والقطاعات الحيوية، والفرص التنموية، مما عمّق الأزمة، وزاد هشاشة الدولة، وعرقل أي مسار إصلاحي أو سيادي حقيقي.
وفي ظل الدولة السورية الجديدة، لا يمكن الاستمرار في التعامل مع هذا الملف من موقع الإنكار، أو الصدام، أو التماهي. بل يجب إعادة مقاربته بوصفه ملفًا سياديًا، قابلًا للتفكيك بالتفاوض، والقانون، والواقعية السياسية.
ويُعالج هذا الفصل الملف من خلال منهجية تحليلية–توثيقية واضحة، ضمن خمس مراحل متكاملة: توصيف العقوبات، تحليل أثرها، فهم سياقاتها، تفكيك خطابها، وطرح حلول عملية لاحتوائها أو إنهائها.
أولًا: التوصيف التوثيقي لمنظومة العقوبات المفروضة على سوريا
العقوبات الأمريكية:
قانون قيصر (2020): يستهدف أي جهة تتعامل اقتصاديًا مع الحكومة السورية أو تدعم عملياتها العسكرية.
الأوامر التنفيذية مثل EO 13572, 13573, 13606): تجميد أصول، منع السفر، حظر التعامل مع مؤسسات مالية سورية.
وزارة الخزانة – مكتب الأصول الأجنبية (OFAC): يُصدر لوائح بالأشخاص والكيانات المدرجة على قائمة العقوبات.
العقوبات الأوروبية:
حظر توريد الأسلحة، المواد ذات الاستخدام المزدوج، معدات الاتصالات.
تجميد الأصول، حظر السفر، حظر الاستثمار، وحظر استيراد النفط السوري.
إدراج مئات الأفراد والشركات ضمن القوائم السوداء.
عقوبات أخرى:
عقوبات كندية، أسترالية، سويسرية، تُكمل الإطار الغربي العام.
مع محاولات من بعض الدول العربية لإعادة الانفتاح لكن دون آليات واضحة لتجاوز الحظر.
ثانيًا: التحليل البنيوي لأثر العقوبات على الدولة والمجتمع
على مستوى الدولة:
انهيار القدرة على استيراد التكنولوجيا والبنى التحتية.
صعوبات في إجراء التحويلات المالية والتمويل الخارجي.
عرقلة مشاريع إعادة الإعمار وإعادة دمج الاقتصاد في النظام المالي العالمي.
على مستوى القطاع الخاص:
صعوبة الحصول على المواد الأولية والتكنولوجيا.
عزل الشركات السورية عن سلاسل التوريد العالمية.
هشاشة في الاستثمارات المحلية والأجنبية.
على المستوى الإنساني:
ارتفاع أسعار الأدوية والسلع الأساسية.
تراجع الخدمات الصحية والتعليمية.
صعوبة وصول المنظمات غير الحكومية إلى موارد العمل.
على المستوى المجتمعي:
خلق اقتصاد ظل موازٍ يحتكر فيه المقرّبون من السلطة موارد الاستيراد.
تعزيز الاعتماد على الميليشيات والتهريب.
توسيع الفجوة بين الدولة والمجتمع بسبب فشل الدولة في تلبية الحاجات الأساسية.
ثالثًا: تفكيك المنطق السياسي–القانوني للعقوبات
من حيث المبدأ القانوني:
العقوبات الأحادية تخالف ميثاق الأمم المتحدة إذا لم تُقرّ عبر مجلس الأمن.
يُمكن الطعن فيها ضمن القانون الدولي باعتبارها إجراءات قسرية اقتصادية تعرّض حقوق الإنسان للخطر.
من حيث التوظيف السياسي:
أداة ضغط لفرض تغيير سياسي أو محاسبة رموز السلطة.
وسيلة لتحجيم النفوذ الإيراني–الروسي في سوريا.
غطاء قانوني لمنع الاستثمار الأجنبي أو التفاعل مع مؤسسات الدولة.
من حيث الخطاب العام:
تُصوّر العقوبات بوصفها “عقابًا للنظام” لكنها تؤثر فعليًا على المجتمع.
تُستخدم من قبل السلطة لتبرير الفشل، ومن قبل بعض المعارضات كوسيلة انتقام.
رابعًا: الاستراتيجية السيادية للتعامل مع منظومة العقوبات
- إعادة تعريف الخطاب السوري تجاه العقوبات
الانتقال من خطاب الضحية المنفعلة إلى خطاب الدولة السيادية.
تقديم ملف شامل إلى الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية يبيّن الأثر الإنساني للعقوبات.
بناء رواية عقلانية تفصل بين العقوبات الموجهة لأفراد وبين تلك التي تمسّ البنية المجتمعية.
- فتح مسار تفاوضي مشروط وواقعي
لا يُطلب رفع العقوبات دون شروط، بل يُطرح سيناريو تفاوضي يتضمن:
خطة إصلاح تدريجية واضحة المعالم.
التزام بمواثيق حقوق الإنسان وشفافية الحكم.
ضمان حياد بعض المؤسسات (الصحية، التعليمية، الإغاثية).
- العمل على إصدار إعفاءات إنسانية موسعة
الضغط بالتنسيق مع منظمات أممية لإدراج قطاعات جديدة في “قائمة الإعفاءات”.
تأسيس آلية رقابية محلية تُسهّل مرور المساعدات وتمنع استخدامها في الفساد.
- تفعيل الشراكات مع الدول غير الغربية
بناء شراكات تنموية وتقنية مع دول لا تخضع لنظام العقوبات الغربية: (الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا، ماليزيا…).
استخدام البنوك الوسيطة والآليات غير التقليدية في التبادل التجاري والتقني.
- تحصين الداخل ضد آثار العقوبات
إعادة تنظيم الأولويات الوطنية:
تعزيز الإنتاج الزراعي والغذائي.
إطلاق خطة توطين الصناعات الأساسية.
دعم شبكات التوزيع الوطنية وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
خامسًا: الطرح العملي لإنهاء أو تقليص العقوبات على مراحل
المرحلة الأولى – المسار الإنساني:
تثبيت آلية مستقلة لإيصال الإغاثة والأدوية.
إعادة تفعيل دور منظمات الأمم المتحدة المحايدة داخل البلاد.
المرحلة الثانية – المسار المؤسساتي:
مراجعة البنية القانونية لمؤسسات الدولة الجديدة.
إشراك بعثات رقابية دولية للاطلاع على مسار الإصلاح الإداري.
المرحلة الثالثة – المسار السياسي والدبلوماسي:
فتح قنوات حوار مع الكونغرس الأمريكي والاتحاد الأوروبي.
إعداد وفد تفاوضي سيادي لعرض خطة رفع تدريجي للعقوبات مقابل إصلاحات مضمونة وغير خاضعة للابتزاز.
المرحلة الرابعة – بناء الثقة الدولية:
تنظيم مؤتمرات اقتصادية دولية بشراكة أممية حول إعادة الإعمار.
إطلاق مبادرات مشتركة مع دول عربية محايدة لتخفيف آثار العقوبات بغطاء دبلوماسي مشروع.
خاتمة الفصل:
ليست العقوبات قدرًا، ولا يُفكّك نظامها بالاستعطاف،
ولا تُلغى بالشعارات أو المماطلة،
بل تُواجه بمشروع سياسي سيادي،
يتعامل مع العالم لا بوصفه عدوًا دائمًا،
ولا بوصفه راعيًا،
بل كأرض معقدة للمصالح، تُخاض فيها معركة السيادة بأدوات القانون والحنكة والوضوح.
وفي الدولة السورية الجديدة،
تُفكك العقوبات لا بالتصعيد ولا بالانبطاح،
بل عبر بناء الداخل،
وضبط الخطاب،
وإدارة التفاوض من موقع الندّ،
لا التابع،
ولا العاجز.