القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل الخامس والعشرون التهديدات العابرة للحدود
الإرهاب، الهجرة، الجريمة المنظمة
تمهيد:
مع انهيار بنية الدولة السورية خلال السنوات الماضية، وغياب السيطرة السيادية على الحدود والمعابر والمجال الرقابي، تحوّلت البلاد إلى بيئة هشّة لانفجار التهديدات العابرة للحدود، من إرهاب شبكي، إلى موجات هجرة غير نظامية، إلى شبكات جريمة منظمة تتاجر بالبشر، والمخدرات، والموارد.
وإذا كانت هذه الظواهر مرتبطة أساسًا بعوامل إقليمية ودولية، فإن خطورتها الأكبر تكمن في أنها تتغذى على ضعف الدولة من جهة، وتُستخدم ذريعة للتدخل الأجنبي من جهة أخرى. فالإرهاب لا ينشأ فقط من التطرّف، بل من الفراغ الأمني. والهجرة لا تتفجّر فقط بسبب الحرب، بل بسبب غياب الأفق الاقتصادي. والجريمة المنظمة لا تنمو فقط في الهوامش، بل في فراغ القانون.
في الدولة السورية الجديدة، لا تُعالج هذه التهديدات بردود أفعال أمنية سطحية، بل بمقاربة سيادية–استراتيجية، تجمع بين الوقاية والتنمية، وبين تفكيك شبكات التهديد، وبناء أدوات مؤسسية تُعيد للدولة قدرتها على حماية حدودها ومجتمعها دون تحوّلها إلى ساحة لأجهزة الخارج أو ممرّ للفوضى.
ويُعالج هذا الفصل هذه التهديدات الثلاثة من خلال تحليل شامل لكل ظاهرة، جذورها، وأثرها، وامتداداتها، مع طروحات عملية للمعالجة المتدرجة.
أولًا: الإرهاب – من العسكرة إلى المعالجة الجذرية
أ. طبيعة التهديد الإرهابي بعد الحرب
بقايا تنظيمات راديكالية مثل: داعش، حراس الدين، بعض خلايا النصرة المنفلتة.
جماعات محلية هجينة تمارس العنف باسم الدين، أو بدوافع اقتصادية.
بؤر توتر قابلة للاشتعال في حال انهيار الترتيبات الأمنية الهشة.
ب. أسباب ديمومة التهديد
انهيار المؤسسات العدلية والأمنية.
بقاء فكر الغلو والتكفير دون معالجة معرفية.
هشاشة الحالة الاجتماعية، وغياب مشاريع إعادة التأهيل للمقاتلين السابقين.
ج. الطرح السيادي لمكافحة الإرهاب
بناء جهاز أمني سيادي متخصص مستقل عن الأيديولوجيا والمحاور.
إطلاق هيئة وطنية لإعادة التأهيل الفكري والنفسي لمقاتلي الفصائل السابقة.
تأسيس مركز بحث وطني لرصد وتحليل التحولات في الفكر الجهادي داخل سوريا وخارجها.
صياغة استراتيجية وطنية لتجفيف منابع التطرّف تشمل التعليم، الإعلام، والمناهج الدينية.
ثانيًا: الهجرة – من النزيف إلى التنظيم
أ. أنماط الهجرة السورية بعد 2011
اللجوء السياسي والإنساني: نحو تركيا، أوروبا، الأردن، لبنان.
الهجرة الاقتصادية: فئة الشباب والمهنيين والأكاديميين.
الهجرة العكسية الخطرة: عودة غير منظمة إلى بيئة ما تزال هشّة، دون ضمانات.
ب. أثر الهجرة على البنية الوطنية
تفريغ الكفاءات والطاقات.
إعادة تشكيل التركيبة الديموغرافية للبلاد.
استغلال ملف اللاجئين في الابتزاز السياسي والتمويل المشروط.
ج. استراتيجية المعالجة
إنشاء وزارة خاصة بشؤون العودة وإعادة الاندماج المجتمعي.
وضع خطة وطنية لعودة اللاجئين تتضمن ضمانات قانونية وحقوقية شاملة.
تنسيق دبلوماسي–قانوني مع الدول المستضيفة لتحييد اللاجئين عن التوظيف السياسي.
ربط العودة ببرنامج إعادة إعمار يوفّر السكن والخدمات وفرص العمل بشكل تدريجي ومركّز.
ثالثًا: الجريمة المنظمة – من التفكك إلى الردع المؤسسي
أ. أبرز أنماط الجريمة المنظمة في سوريا بعد الحرب
تهريب المخدرات والسلاح: عبر الحدود اللبنانية–الأردنية–العراقية.
الاتجار بالبشر: داخل مخيمات النزوح، وفي المناطق الخارجة عن السيطرة.
غسيل الأموال وتمويل شبكات التسلح الميليشياوي.
النهب المنظم للموارد عبر شبكات محلية–إقليمية مرتبطة بقوى أمر واقع.
ب. جذور تغوّل الجريمة
تفكك السلطة القضائية.
تشابك المافيا المحلية مع أجهزة أمنية وعسكرية سابقة.
غياب القانون وتحوّل الفساد إلى وسيلة للبقاء.
ج. مقاربة الدولة الجديدة لمكافحة الجريمة المنظمة
تأسيس جهاز مركزي لمكافحة الجريمة المنظمة بمرجعية قضائية مستقلة.
سن قوانين عقوبات مالية وإدارية صارمة، تشمل المصادرة والحرمان من الحقوق السياسية.
التعاون مع الإنتربول ومنظمات الأمن الدولي لاستعادة المجرمين الهاربين ومصادرة الأموال المنهوبة.
بناء شبكة مجتمعية للإنذار المبكر، وتفعيل البلديات والشرطة المدنية في مراقبة الأنشطة المشبوهة.
رابعًا: البُعد السيادي في مواجهة التهديدات العابرة
تُستخدم هذه التهديدات كذرائع لتبرير:
التدخل الأجنبي.
استمرار الاحتلالات.
توجيه العقوبات بحجة مكافحة الإرهاب.
لذلك، فإن استعادة الدولة السيطرة على هذه الملفات تمثل ركيزة في استعادة السيادة الكاملة.
خامسًا: تكامل المسارات – الوقاية، الردع، العدالة، التنمية
لا يمكن تفكيك التهديدات المعقدة بأدوات أمنية فقط، بل من خلال دمج:
المسار القضائي: ضمان استقلال القضاء وقدرته على البت في الجرائم الكبرى.
المسار الأمني: إعادة هيكلة أجهزة الدولة على قاعدة احترافية.
المسار الاجتماعي: معالجة أسباب الانخراط في التهريب والتطرف.
المسار التنموي: خلق بدائل حقيقية للبطالة، الإقصاء، والمظلومية.
خاتمة الفصل:
بين حدود تُستباح، وعقول تُجنّد، وشبكات تُغذي الفوضى،
لا يُبنى الأمن بالردع وحده،
ولا تُستعاد الدولة بالشعارات،
بل بخطة سيادية تدمج المؤسسات، والمجتمع، والقانون، والتنمية،
وتحوّل سوريا من ساحة عبور للفوضى، إلى أرضٍ تُحكم بالعدالة وتُحمى بالعقل والصلابة.
وفي الدولة السورية الجديدة،
الإرهاب يُفكّك،
الهجرة تُدار،
والجريمة تُجتث،
ليس لأنها تحديات فقط،
بل لأنها بوابات السيادة…
ومن لا يُمسك بها،
لن يُمسك بوطنه.