القسم الثاني عشر – الباب الخامس
الفصل السادس والعشرون السيادة الرقمية والدبلوماسية السيبرانية
من التبعية التقنية إلى الحماية السيادية
تمهيد:
في العصر الرقمي، لم تعد السيادة تُقاس بالحدود الجغرافية فحسب، بل باتت السيادة المعلوماتية والتقنية إحدى الركائز الأساسية لاستقلال الدول، وأحد أكثر ميادين الصراع تأثيرًا وعمقًا.
ولم تكن سوريا استثناءً، بل أحد أكثر الدول هشاشة في هذا المجال، نتيجة تراكمات من الإهمال والتبعية، ثم نتيجة الانهيار الأمني والمؤسساتي بعد 2011، وغياب أي بنية سيبرانية أو استراتيجية لحماية المجال الرقمي الوطني.
لقد تحوّلت البنية التحتية التكنولوجية السورية إلى أرضٍ مكشوفة، تستباح فيها البيانات، وتخترق فيها شبكات الاتصالات، وتُراقب فيها المؤسسات، بل وتُوظَّف التقنيات ضد الشعب، سواء عبر الرقابة الداخلية، أو التلاعب الخارجي، أو الاختراق السيادي.
وفي الدولة السورية الجديدة، لا يمكن بناء مشروع سيادي فعلي دون إدراج البُعد الرقمي ضمن الأمن القومي الشامل، بوصفه فضاءً للمعرفة، والسياسة، والاقتصاد، والحرب الناعمة والصلبة في آنٍ معًا.
ويُعالج هذا الفصل، ضمن منهجية تحليلية استراتيجية، مكامن التبعية الرقمية في سوريا، ومخاطرها السيادية، وأدوات تفكيكها، ثم يطرح نموذجًا متكاملًا للتحصين الرقمي، والدبلوماسية السيبرانية، وصياغة إطار وطني لسيادة تكنولوجية محمية وفعالة.
أولًا: تشخيص التبعية الرقمية ومصادر الاختراق
أ. البنية التحتية الضعيفة والمرتهنة
الاعتماد شبه الكامل على بنى مستوردة للاتصالات والمعلوماتية.
سيطرة شركات أجنبية أو شبه أمنية على مفاصل الشبكة الوطنية.
هشاشة نظم الحماية والبيانات، وغياب التشفير المؤسسي.
ب. غياب التشريعات الرقمية السيادية
غياب قوانين واضحة لحماية البيانات الشخصية.
استخدام السلطة السابقة للرقابة بوصفها أداة أمن داخلي لا أداة أمن وطني.
غياب أي إطار قانوني لضمان حرية وسرية المعلومات للمواطن والمؤسسات.
ج. الاختراقات الخارجية النشطة
وجود نشاط سيبراني إسرائيلي وغربي يستهدف البنية الأمنية والاقتصادية.
تجنيد منصات التواصل في عمليات التلاعب بالرأي العام السوري.
التلاعب بالبيانات الحكومية والمالية وتزوير الوثائق الرقمية.
ثانيًا: فهم التحدي السيادي في الفضاء الرقمي
السيادة الرقمية لا تعني الانغلاق، بل السيطرة على:
البنية التحتية للاتصالات.
البيانات الحيوية (السكانية، الصحية، الاقتصادية).
نظم التشفير والأمن السيبراني.
منصات الإعلام والتواصل التي تُنتج الوعي الجمعي.
ومن دون ذلك، تصبح الدولة مستعمرة رقمية، مهما بلغت استقلاليتها الجغرافية أو السياسية.
ثالثًا: بناء خطة وطنية للسيادة الرقمية – المحاور الرئيسية
- إعادة هندسة البنية التحتية الرقمية
إنشاء شبكة وطنية سيادية للاتصالات تعتمد على تكنولوجيا محلية أو شراكات غير مشروطة.
حظر إدخال أي معدات تقنية مرتبطة بشبكات التجسس العالمية (خاصة الإسرائيلية أو الخاضعة للرقابة الغربية–الأمنية).
توطين مراكز البيانات داخل الأراضي السورية بإدارة مدنية تقنية مستقلة.
- حماية البيانات الوطنية وبناء منظومة تشريعات حديثة
إصدار قانون حماية البيانات الشخصية والمؤسساتية.
إنشاء هيئة مستقلة للأمن السيبراني تخضع للمساءلة البرلمانية.
فرض معايير إلزامية للتشفير وإدارة المعلومات في المؤسسات الحكومية.
- إطلاق منظومة “الهوية الرقمية الوطنية“
توحيد قواعد البيانات في بنية متكاملة ومؤمّنة تشمل:
الهوية المدنية.
السجلات الصحية.
التوثيق القانوني.
منع تسريب المعلومات إلى أطراف أجنبية أو استخدامها في انتهاك الخصوصية أو الحريات.
- بناء الكادر الوطني الرقمي
إنشاء معهد وطني للأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات.
إدراج مسار “السيادة الرقمية” ضمن الجامعات الوطنية ومراكز الأبحاث.
إطلاق بعثات علمية للمتخصصين في أمن المعلومات إلى الدول ذات الخبرة السيادية (الهند، كوريا الجنوبية، ماليزيا، وغيرها).
رابعًا: إطلاق الدبلوماسية السيبرانية – الدفاع عن الفضاء السيادي عبر القانون والتحالفات
الاعتراف بالهجمات السيبرانية كاعتداءات على السيادة، وملاحقتها ضمن القانون الدولي.
بناء شبكة تحالفات دولية للتعاون في مجال الأمن السيبراني خارج إطار الهيمنة الغربية.
التوقيع على الاتفاقيات الدولية التي تحفظ الحريات الرقمية، وتمنع عسكرة الفضاء المعلوماتي.
مأسسة العلاقة بين وزارة الخارجية ومراكز التقنية لحماية السيادة في مفاوضات الأمن الإلكتروني والعقوبات التقنية.
خامسًا: بناء إعلام سيادي وتفاعلي في العصر الرقمي
لا تكتمل السيادة الرقمية دون إعلام مستقل وتفاعلي:
يُنتج محتوى وطني عالي الجودة.
يُواجه التضليل الإعلامي الخارجي.
يُعزّز وعي المواطن بحقوقه الرقمية، وأهمية حماية بياناته.
دعم المبادرات الإعلامية الوطنية المستقلة عبر حاضنات إعلام رقمي، وضمان حريتها واستقلاليتها ضمن إطار وطني يحمي السيادة ولا يكرّس الاستبداد.
خاتمة الفصل:
في الزمن الرقمي،
الدولة التي لا تُدير بياناتها، لا تملك قرارها،
والسلطة التي تجهل الفضاء السيبراني، تُسلّمه لخصومها،
والمجتمع الذي لا يُحمى رقمياً، يُستباح من الداخل والخارج معاً.
وفي سوريا الجديدة،
لا تُبنى الجيوش فقط بالسلاح،
بل تُبنى بالجدران السيبرانية،
ولا تُصان الكرامة فقط بالشعارات،
بل بحماية الهوية الرقمية للمواطن،
والذاكرة السيادية للدولة.
فالسيادة لم تعد مفهوماً ترابياً، بل أصبحت شيفرة، وشفافية، وشبكة.