web analytics
الملاحق التنفيذية الخاصة بالقسم الثاني عشر

الملحق الأول السياسات الخارجية لحكومة الأمر الواقع

تقييم وتفكيك

( تحليل بنيوي–وظيفي لمفهوم التمثيل الخارجي، وتصورات لبناء دبلوماسية سيادية)

أولًا: مدخل تأسيسي – الحكومة دون دولة، والتمثيل دون سيادة

منذ عام 2011، ومع تفكك السلطة المركزية، برزت تشكيلات متعددة حاولت احتكار التمثيل السياسي الخارجي لسوريا، بدءًا من النظام القديم الذي احتفظ بكرسي الأمم المتحدة بدعم روسي–صيني، مرورًا بالمعارضة الرسمية التي تبنّاها الغرب، وصولًا إلى هيئات ومجالس أمر واقع محلية ذات طبيعة فصائلية أو أيديولوجية.

لكن أخطر هذه التشكيلات هي ما عُرف بـ**”حكومات الأمر الواقع”**، التي نشأت في سياقات سياسية–عسكرية ضبابية، وتمارس أدوارًا تمثيلية أو تفاوضية، دون أن تستند إلى شرعية دستورية أو تفويض شعبي صريح، ودون أن تملك مؤسسات دولة حقيقية تُنتج سياسة خارجية بالمعنى السيادي.

في هذا السياق، تشكّلت “سياسة خارجية” لا تُعبّر عن سوريا، بل عن الوظيفة التي تخدم مصالح الفاعلين الداعمين، سواء كانت تركيا، إيران، قطر، روسيا، أو حتى الولايات المتحدة. وتحولت العلاقات الخارجية من أداة لحماية السيادة إلى قناة لتأبيد التبعية، أو لابتزاز الداخل، أو لإعادة إنتاج السلطة بدل إعادة إنتاج الدولة.

ثانيًا: الوظائف الفعلية للسياسة الخارجية في ظل حكومة الأمر الواقع

رغم تعدد الأطر الشكلية التي تبنّت السياسات الخارجية في مرحلة الأمر الواقع، إلا أنها تشترك في سمات وظيفية واضحة:

  1. التمثيل السياسي بوصفه ورقة تفاوض لا تكليف شعبي

تم تفويض الأجسام التمثيلية من قِبل قوى خارجية (لا من الشعب) لتكون ناطقة باسمه.

باتت الأولوية هي الحفاظ على الاعتراف الدولي، لا على بناء الشرعية الوطنية.

  1. التحالفات بوصفها ملاذًا للحماية لا أداة لصناعة القوة

أصبحت العلاقة مع تركيا أو قطر أو غيرهما تعويضًا عن غياب الدولة، بدل أن تكون شراكة استراتيجية.

تحوّلت القوى الخارجية إلى ضامن وجود لا شريك قرار، بما يُفقد الطرف السوري استقلاليته بالكامل.

  1. المنابر الدولية بوصفها مساحة للمكايدة لا للطرح السيادي

لم تُستخدم منصات الأمم المتحدة والقمم الدولية لإنتاج سردية وطنية، بل للمواجهة السياسية بين أطراف سورية متنازعة.

غاب الخطاب السيادي لحساب الخطاب الاستعطافي أو الإيديولوجي أو الموجّه حسب المموّل.

  1. الشتات السوري بوصفه رصيدًا سياسيًا يُستخدم لا يُمثّل

لم يُستثمر وجود ملايين السوريين في الخارج لبناء لوبي دبلوماسي، بل لاستقطاب الولاءات أو التمويل.

تم تجاهل الكفاءات المستقلة لصالح المحازبين، وفُقدت فرصة بناء عمق خارجي وطني جامع.

ثالثًا: النتائج الجيوسياسية المترتبة على هذه السياسة

أ. تراجع مكانة سوريا كفاعل دولي

تم اختزال القضية السورية إلى ملف أمني أو إنساني، لا مشروع دولة قيد التأسيس.

فُقدت السيطرة على سردية الصراع، وتحوّلت سوريا إلى “موضوع” دولي يُدار لا يشارك في إدارته.

ب. شرعنة الاحتلالات والتدخلات

استخدمت بعض الحكومات “المعترف بها” غطاءً لشرعنة تدخل عسكري أو وصاية سياسية.

تم تمرير اتفاقيات ومشاريع تخدم أجندات الدول الراعية لا المصلحة الوطنية (مناطق آمنة، قواعد، نفط…).

ج. ضرب فكرة الدولة المركزية المتماسكة

كثرة التمثيلات الخارجية أسهمت في إضعاف فكرة الدولة الواحدة، واستُعيض عنها بـ”الاعترافات المنفصلة”.

أدّى ذلك إلى تآكل مفهوم الشرعية الوطنية لصالح الشرعيات الوظيفية.

رابعًا: تفكيك البنية الفكرية والخطابية للسياسة الخارجية لحكومة الأمر الواقع

  1. استخدام خطاب “الثورة” كذريعة للارتهان

تم استخدام مفردات الثورة لتبرير التحالف مع قوى أجنبية، حتى لو تعارضت تلك القوى مع مبادئ الثورة نفسها.

تحوّل الخطاب إلى شعاراتية أخلاقية تخفي تواطؤًا وظيفيًا.

  1. الخلط المتعمد بين “الاعتراف الدولي” و”الشرعية السياسية

لا يُبنى الاعتراف على شرعية شعبية بل على قرارات دولية مشروطة أو مؤقتة.

تم توظيفه داخليًا لإسكات المعارضين تحت ذريعة “نحن الممثل الوحيد”، دون محاسبة أو مراجعة.

  1. تجاهل العلاقة العضوية بين الداخل والخارج

سياسة خارجية فُرضت من خارج الداخل، ولم تُبْنَ على احتياجاته ولا تمثيله.

انفصال كامل بين من يفاوض في الخارج، ومن يدفع الثمن في الداخل.

خامسًا: التصورات البديلة لبناء سياسة خارجية سيادية في الدولة السورية الجديدة

أ. إعادة الشرعية إلى الداخل قبل السعي للاعتراف الخارجي

أي تمثيل خارجي يجب أن يُبنى على تفويض شعبي حقيقي ودستوري.

لا شرعية خارجية بدون شرعية وطنية متماسكة.

ب. إعادة تعريف وظيفة السياسة الخارجية

لا بوصفها أداة حماية، بل أداة صناعة قرار وشراكة نديّة.

تُبنى التحالفات على المصالح طويلة الأمد، لا على الولاءات الآنية أو الحماية العسكرية.

ج. تأسيس مؤسسة دبلوماسية مستقلة واحترافية

تُفصل عن الأجهزة الأمنية.

تعتمد على الكفاءة لا الولاء.

تُبنى على شبكة من الكفاءات السورية حول العالم، وليس فقط في الداخل.

د. تطوير العقيدة الدبلوماسية السورية

قائمة على مبادئ السيادة، وعدم التبعية، والانفتاح المتوازن.

تجمع بين الصلابة في الثوابت والمرونة في التكتيك.

تصوغ خطابًا جديدًا يعبّر عن “الدولة السورية القادمة” لا عن صراعات قوى ما بعد 2011.

خاتمة الملحق:

لقد مثّلت السياسات الخارجية لحكومات الأمر الواقع امتدادًا وظيفيًا لغياب الدولة، أكثر مما كانت تعبيرًا عن تمثيل حقيقي للشعب السوري.

ومع كل ما فيها من جهود فردية صادقة، فقد فشلت منهجيًا في بناء بديل سيادي، وكرّست الانقسام والتبعية، وخسرت معركة السردية والمكانة.

أما في مشروع الدولة السورية الجديدة، فلا مجال لسياسة خارجية تُدار من الخارج أو لأجل الخارج،
بل تُبنى من الداخل، وتمثّل الداخل، وتحمي الداخل،
وتكون أولى وظائفها تحرير القرار السيادي لا فقط تمثيله.