web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الأول

الفصل الثاني السياسة التشريعية

من الصياغة إلى التشريع المؤسسي

مقدمة تمهيدية

لا يكفي أن يُكتب الدستور، ولا أن تُرسَم السلطات وتُحدّد الصلاحيات، إن لم تتبع ذلك منظومة تشريعية كاملة تُجسّد إرادة الدولة السيادية وتُطبّق العقد الاجتماعي في الواقع. فالتشريع هو اللسان العملي للدستور، وهو ما يُحوّل المبادئ إلى قوانين، والقوانين إلى أفعال، والحقوق إلى ضمانات. وفي التجربة السورية، لم يكن التشريع أداة لتنظيم الحياة العامة، بل كان أداة سلطة لفرض الإرادة، وإخضاع المجتمع، وتأبيد الحكم عبر قوانين مُفصّلة على مقاس القامع لا على حاجات الإنسان.

من هنا، تأتي السياسة التشريعية في مشروع النهضة باعتبارها الحلقة الحاسمة التي تربط بين الفكرة الدستورية وبين جهاز الدولة الفاعل، فلا تكون القوانين نصوصًا جامدة أو مراسيم فوقية، بل صيغًا عقلانية، شرعية، خاضعة للرقابة المجتمعية والضوابط الدستورية، وتُنتج في سياق يعكس أولويات الناس ويترجم حاجاتهم إلى تنظيمات مُنصفة.

أولًا: تفكيك الأزمة التشريعية في التجربة السورية

المشهد التشريعي في سوريا، منذ عقود، تميّز بثلاثة عناصر قاتلة:

مركزة السلطة في يد الجهاز التنفيذي، بحيث جُعل البرلمان مجرد أداة تصديق، تُمرَّر عبره القوانين دون نقاش حقيقي، بل أحيانًا دون حتى قراءتها.

تشريع قائم على العقاب لا على التنظيم، حيث تمتلئ المنظومة القانونية بعشرات القوانين الجزائية، بينما تندر القوانين التنظيمية والتنموية والضامنة للحقوق.

ازدواجية القوانين وتشابكها وتناقضها، ما أنتج بيئة قانونية فوضوية، قابلة للتأويل من السلطة، وتستخدم بشكل انتقائي لتصفية الخصوم أو ضبط المجتمع، بدل تنظيمه.

والأخطر من ذلك أن هذه الفوضى التشريعية لم تكن عشوائية، بل كانت أداة حكم ممنهجة، أُريد لها أن تنتج “حالة قانونية منزوعة العدالة” تُبرر الظلم، لا تقيّده.

ثانيًا: هدف السياسة التشريعية في مشروع النهضة

تسعى السياسة التشريعية في إطار مشروع النهضة إلى تحقيق تحول جذري في وظيفة التشريع، عبر:

استعادة سلطة التشريع من الجهاز التنفيذي إلى ممثلي الشعب الحقيقيين.

تحويل القوانين من أدوات سيطرة إلى أدوات عدالة وتنظيم.

إعادة صياغة كاملة للمنظومة القانونية وفق مبادئ الدولة السيادية.

إلغاء كل القوانين التي تنتهك الكرامة أو تُشرعن الاستبداد.

إنشاء منظومة قانونية بسيطة، واضحة، قابلة للفهم والتطبيق، وعادلة.

فالغاية هنا ليست إنتاج قوانين أكثر، بل إنتاج قوانين أفضل: قوانين تنظم علاقة المواطن بالدولة والمجتمع بوضوح، وتوفّر بيئة قانونية سليمة للنمو، لا لليأس والشكّ والخوف.

ثالثًا: عناصر تنفيذ السياسة التشريعية

لتحقيق هذا الهدف، نقترح المبادرات التنفيذية التالية:

تأسيس “الهيئة الوطنية العليا للتقنين القانوني:

تتولى حصر القوانين النافذة، وتقييمها، وتصنيفها، وإعداد خطة متكاملة للإلغاء أو التعديل أو الإبدال.

تُشرف على توحيد وتبسيط المنظومة القانونية، وفق مبادئ العقد الاجتماعي والدستور الجديد.

إصدار “مدوّنة القوانين السيادية:

مجموعة مرجعية متكاملة تشمل القوانين الأساسية التي ترسم حدود السلطة، وتُنظم الحقوق، وتُحدّد قواعد المحاسبة.

تشمل قوانين: الانتخابات، الأحزاب، الإعلام، الجمعيات، العمل، التعليم، القضاء، الإدارة المحلية، وغيرها.

فصل المسارات التشريعية عن المسارات التنفيذية:

ضمان استقلال السلطة التشريعية، ومنع تدخل الحكومة أو أجهزة الأمن في عمل المجالس النيابية.

منع تمرير القوانين بصيغة المراسيم أو حالة الطوارئ.

اعتماد آلية تشريعية شفافة وتشاركية:

تُعرض مشاريع القوانين على النقاش العام، ويُفتح الباب للاقتراحات والملاحظات من الخبراء والمواطنين.

تُنشر الأسباب الموجبة ومناقشات اللجان التشريعية على الملأ.

تفعيل الرقابة الدستورية على القوانين:

عبر إنشاء محكمة دستورية مستقلة تُراجع كل قانون يُصدر للتأكد من توافقه مع النص الدستوري.

رابعًا: ربط التشريع بالتحوّل الاجتماعي والسياسي

لا يقتصر الإصلاح التشريعي على الجانب القانوني فقط، بل هو أداة رئيسية لبناء ثقافة سياسية جديدة. فالقوانين العادلة تخلق ثقة، وتبني مواطنة فاعلة، وتُشجع المشاركة، وتُعيد الاعتبار لفكرة “الحق”. ولهذا فإن كل قانون جديد يجب أن يكون جزءًا من مشروع وطني متكامل، لا خطوة منعزلة.

كما أن صياغة القوانين يجب أن تراعي الخصوصية السورية، وتعكس التنوع الثقافي والاجتماعي، وتُنتج نموذجًا قانونيًا لا يستورد الأحكام، بل يُطوّع المبادئ الكونية في إطار السيادة الوطنية والعدالة المجتمعية.

خامسًا: التحديات والضوابط

ثمة تحديات كبرى تواجه السياسة التشريعية، أبرزها:

بنية البرلمان ذاته: فإذا لم يكن ممثلًا حقيقيًا للإرادة الشعبية، فستبقى القوانين مجرد أدوات سلطة جديدة.

غياب الكفاءات القانونية المستقلة بعد عقود من الإقصاء.

تضخم المنظومة البيروقراطية القديمة التي قد تعرقل التنفيذ.

ضغوط القوى الدولية أو المحلية التي تسعى لتكريس قوانين توافقية غير عادلة.

ولمواجهة هذه التحديات، لا بد من بناء بيئة تشريعية لا تكتفي بالإصلاح من الداخل، بل تؤسس لبنية قانونية جديدة، تُدار من مؤسسات نزيهة، وتنمو في مناخ من الحرية والوعي الشعبي.

خاتمة

السياسة التشريعية في مشروع النهضة ليست ورشة صياغة نصوص، بل معركة سيادة قانونية. إنها تحوّل القوانين من أدوات قهر إلى أدوات تحرر، ومن مراسيم طوارئ إلى منظومة عقلانية عادلة. فهي التي تقول للشعب: أنتم لم تسقطوا الاستبداد فقط، بل أسّستم لقانون لا يُهان، وعدالة لا تُؤجَّل، ودولة لا يُحكم فيها أحد بلا حق.