web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الأول

الفصل الثالث السياسة القضائية

من الاستقلال النظري إلى الضمان الفعلي

مقدمة تمهيدية

إن الدولة التي لا يُؤمن فيها الناس بوجود قضاء عادل، هي دولة منهارة في جوهرها، مهما بدت مؤسساتها قائمة. لأن العدل ليس مرفقًا إداريًا، بل هو أساس وجود الدولة ذاتها، والمعيار الحقيقي لشرعيتها.

وقد كان أحد أهم أوجه الانهيار السوري هو تفكك مؤسسة القضاء: لا بسبب انعدام القوانين وحدها، بل لأن القضاء نفسه تحوّل إلى ذراع سلطوي، يُستخدم لقمع الخصوم، أو لحماية المجرمين، أو لمراكمة الفساد، لا لإحقاق الحق.

ولهذا، فإن مشروع النهضة لا يطرح مجرد “إصلاح قضائي” بالمعنى التقني، بل يقترح سياسة قضائية سيادية تعيد تأسيس القضاء من جديد، بوصفه سلطة حقيقية مستقلة، لا وظيفة تابعة، سلطة تضمن التوازن بين مؤسسات الدولة، وتحمي الإنسان من عسف الدولة نفسها.

بهذا المعنى، فإن بناء قضاء مستقل ليس مجرد مطلب حقوقي، بل هو فعلٌ سياسي سيادي لا تستقيم الدولة من دونه.

أولًا: تشريح الأزمة القضائية السورية

انهيار القضاء السوري لم يكن لحظة عرضية، بل نتيجة تراكمات عميقة، أبرزها:

تبعية السلطة القضائية الكاملة للسلطة التنفيذية، عبر تبعية مجلس القضاء الأعلى لرئيس الجمهورية، وتدخل الأجهزة الأمنية في التعيينات والتحقيقات والقرارات.

تفريغ القضاء من وظائفه الدستورية، حيث حُوّلت المحكمة الدستورية إلى غرفة تمرير، وتمّ تهميش القضاء الإداري، وأُقصيت المحاكم المتخصصة عن القضايا ذات الطابع السيادي.

إفساد البنية القضائية عبر الفساد والتسييس، ما جعل الكثير من القضاة رهائن لمصالح شخصية أو لضغوط أمنية.

غياب الثقة الشعبية الكاملة بالقضاء، نتيجة أحكام انتقامية، أو تعطيل متعمّد للعدالة، أو انحياز فجّ لصالح السلطة.

وبذلك، لم يعد الناس يرون في القاضي ملاذًا ولا في المحكمة مؤسسة عدالة، بل جزءًا من المنظومة القامعة.

ثانيًا: هدف السياسة القضائية في مشروع النهضة

يهدف مشروع النهضة إلى بناء قضاء لا يكتفي بالاستقلال النظري، بل يمتلك الضمانات الفعلية للقيام بدوره، وذلك عبر:

تحقيق الفصل الحقيقي بين السلطات، بحيث لا تكون السلطة القضائية تابعة أو خاضعة للتنفيذية أو التشريعية.

ضمان نزاهة التعيينات القضائية، عبر مجالس مستقلة، وبمعايير شفافة ووطنية.

توسيع دور القضاء في الرقابة على السلطات، من خلال قضاء دستوري فعال، وقضاء إداري مستقل، وقضاء حقوقي منفتح على المجتمع.

إعادة بناء الثقة بالقضاء، عبر الشفافية، وسرعة التقاضي، وعدالة الأحكام، وضمانات المحاكمة.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إنشاء “المجلس الأعلى للقضاء السيادي:

هيئة مستقلة عن السلطات الثلاث، تُشرف على التعيينات والنقل والترقيات والمساءلة، يُنتخب أعضاؤها جزئيًا من القضاة وجزئيًا من الشعب وممثليه.

إعادة هيكلة المحاكم العليا:

تفعيل المحكمة الدستورية العليا كمؤسسة مستقلة للفصل في دستورية القوانين.

تعزيز القضاء الإداري ليكون مظلة لحماية الأفراد من تعسف السلطة.

تأسيس دوائر متخصصة في العدالة الانتقالية والجرائم الكبرى والمحاسبة السياسية.

إطلاق “خطة العدالة الشاملة:

خطة وطنية لإعادة تأهيل النظام القضائي، تشمل:

تدريب قضاة جدد على أساس الاستقلال والنزاهة.

مراجعة القوانين الإجرائية.

رقمنة المحاكم وتسهيل الوصول إليها.

تعزيز الدور الوقائي للقضاء وليس العقابي فقط.

ضمان حق التقاضي للجميع:

إنشاء مراكز مساعدة قانونية مجانية للمواطنين.

إصلاح نظام المحاماة وضمان استقلاليته.

منع الاحتجاز قبل المحاكمة إلا ضمن ضمانات صارمة.

فصل النيابة العامة عن السلطة التنفيذية:

تحويلها إلى جهاز مستقل يعمل وفق القانون لا التعليمات.

رابعًا: القضاء كفاعل سيادي لا كمؤسسة إجرائية

في النموذج الذي يقترحه مشروع النهضة، لا يُعامل القضاء كوظيفة، بل كفاعل سيادي مركزي، يوازن بين السلطات، ويؤسس للثقة في الدولة.

فإذا كانت السلطة التنفيذية تُدير، والسلطة التشريعية تُشرّع، فإن السلطة القضائية تُلزم وتحاسب، وتحمي الحقوق، وتمنع التعدّي باسم القانون نفسه.

إن إعادة الاعتبار للقاضي في الوعي الجمعي السوري ضرورة لا تقل أهمية عن إعادة بناء المؤسسات، لأن القاضي هو حارس العقد، وضامن السيادة الفردية في وجه تعسّف الدولة.

خامسًا: التحديات المتوقعة

المقاومة من بقايا السلطة الأمنية التي اعتادت التدخل في عمل القضاء.

غياب البنية المهنية المستقلة بعد سنوات من الإفساد والتجريف.

ضغوط التحول السياسي والمجتمعي السريعة التي قد تضعف التركيز على بناء القضاء.

خطر التدخلات السياسية أو الدولية في مسارات العدالة الانتقالية.

لهذا، لا بد من مأسسة الضمانات القضائية، لا الاعتماد فقط على النوايا.

خاتمة

السياسة القضائية في مشروع النهضة ليست إصلاحًا إداريًا، بل هي فعل تحرر وطني، يُعيد الثقة بالدولة، ويمنح الإنسان السوري أخيرًا شعورًا بأن له مكانًا يلجأ إليه إن ظُلم. فبلا قضاء مستقل، لا معنى للدستور، ولا وزن للتشريع، ولا كرامة للمواطن، ولا سيادة للدولة.