القسم الثالث عشر – الباب الثاني
الفصل السادس السياسة الاقتصادية العامة
من الفوضى إلى الإنتاج السيادي
مقدمة تمهيدية
لا تُقاس قوة الدولة الاقتصادية بعدد صناديق النقد أو احتياطيات الذهب، بل بقدرتها على تحويل مواردها الطبيعية والبشرية إلى قوة إنتاجية تحرر المواطن من عبودية الاستيراد وتعتمد على الذات في تأمين الغذاء والسلع الأساسية والخدمات.
لقد بلغ الاقتصاد السوري مرحلة انحدار متشعب، حيث تحولت الثروات الوطنية إلى مصادر ربح لأقليات وكيانات خارجية، ولعبت شبكات الفساد والتجارة غير المشروعة دور المفسد في تحويل الثورة الاقتصادية إلى دوامة انحدار مدفوعة بالتبعية والدين الخارجي.
في مشروع النهضة، تُطرح السياسة الاقتصادية العامة كإطار استراتيجي لإعادة بناء الاقتصاد الوطني من جذوره؛ من خلال إنهاء دورة الفوضى الاقتصادية التي أقنعت الشعب بأنه ضحية النظام الاقتصادي القديم، وإعادة بناء نموذج إنتاجي مستقل قائم على مبادئ السيادة والعدالة والتوزيع العادل للثروات.
أولًا: تفكيك الأزمة الاقتصادية السورية
على مدى عقود، تعرض الاقتصاد السوري لعدة عوامل مدمرة:
تأثير السياسات الاقتصادية الاستبدادية:
لم يكن الاقتصاد موجهًا نحو تلبية حاجات المواطن، بل كان يخدم مصالح طبقات ضيقة وأجندات خارجية.
الاعتماد الشديد على الموارد الواحدة (كالنفط أو الغاز في بعض الفترات) دون تنويع مصادر الدخل القومي.
فوضى القطاع المالي وقصور في الرقابة:
انتشار الفساد المالي والبيروقراطية العتيقة التي تعيق تدفق الاستثمارات وتعطل نمو المشروعات الوطنية.
غياب الشفافية والمساءلة، مما أتاح مساحات لتراكم الدين الخارجي والاستغلال المالي.
تدهور البنية الإنتاجية والخدمية:
تراجع الصناعات التقليدية والحديثة مع تهميش القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة التحويلية.
نقص الكفاءات والاحتياجات التكنولوجية مع ضعف البحث والتطوير، مما جعل الدولة معتمدة على استيراد التكنولوجيا والمواد الأساسية.
آثار الحصار والنزاع:
الحصار الدولي والقيود المفروضة، التي فاقت الطاقة الإنتاجية الوطنية وأدت إلى انهيار سلاسل الإمدادات.
تحوّل مناطق هامة إلى أسواق سوداء، وعجز الدولة عن السيطرة على أسواقها الداخلية.
ثانيًا: أهداف السياسة الاقتصادية العامة في مشروع النهضة
تتبلور الأهداف الرئيسية لهذه السياسة في عدة محاور استراتيجية، منها:
تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني:
بناء نموذج اقتصادي يعتمد على الموارد الوطنية، يعزز الصناعة المحلية والزراعة الذكية، ويقلل من الاعتماد على الاستيراد.
تحويل الاقتصاد من نموذج التبعية إلى نموذج السيادة الإنتاجية:
إعادة توزيع الثروات بشكل عادل، وضمان استفادة المواطن من موارد بلاده.
تعزيز بيئة الأعمال والاستثمارات الوطنية:
تطوير الأطر القانونية والتنظيمية التي تضمن شفافية التعاملات وتشجع الاستثمارات المحلية والأجنبية الملتزمة بالمصلحة الوطنية.
تنمية البنية التحتية الإنتاجية والخدمية:
تحديث البنية التحتية، بما في ذلك شبكات النقل والطاقة والاتصالات، لتكون قاعدة لحركة اقتصادية متكاملة.
مكافحة الفساد المالي والإداري:
تطبيق آليات رقابية صارمة لإعادة الثقة في النظام المالي، واستحداث مؤسسات محاسبية مستقلة تضمن نزاهة إدارة الأموال العامة.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
لتحقيق هذه الأهداف، يقترح مشروع النهضة مجموعة من المبادرات التنفيذية التي تشمل:
تشكيل “اللجنة الوطنية للسيادة الاقتصادية”:
جهة مركزية تتولى تقييم الموارد الوطنية، وتنسيق سياسات الإنتاج الوطني، وضمان توزيع عادل للثروات.
تعمل اللجنة على إعداد تقارير دورية للمساءلة وتحليل أداء القطاعات الحيوية.
إطلاق برنامج “الاكتفاء الوطني”:
مبادرة شاملة لتحفيز الزراعة الذكية والصناعات التحويلية، مع إعطاء الأولوية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
توفير الدعم التقني والمالي للمزارعين والصناعيين عبر بنوك تمويل متخصصة مع ضمان شروط شفافة.
إصلاح الهيكل المالي والضريبي:
وضع نظام ضريبي عادل يُكافئ الانتاجية ويدعم التوزيع العادل للثروات.
ربط نظام الضرائب بنظام رقابي مستقل يمنع التلاعب ويضمن إعادة استثمار العائدات في البنية التحتية والخدمات الوطنية.
تحديث البنية التحتية وتفعيل مشروعات تنموية كبرى:
تطوير مشروعات الطاقة المتجددة والمواصلات والخدمات اللوجستية لتقوية حركة الاقتصاد الوطني.
استحداث حوافز استثمارية للمناطق التي تعاني من نقص التنمية، مع ربطها بالخطة الوطنية للاكتفاء الذاتي.
محاربة الفساد وتعزيز الشفافية:
تطبيق نظام رقابي متكامل يشمل الرقابة المالية والإدارية، واعتماد الأنظمة الرقمية لمراقبة المعاملات.
تأسيس “مركز محاسبة وشفافية” مستقل يضم خبراء وممثلين مدنيين لرصد الأداء الاقتصادي ومحاسبة المخالفين.
رابعًا: التحديات والمخاطر
على الرغم من الأهداف الطموحة، تواجه السياسة الاقتصادية العامة تحديات عدة منها:
المقاومة المؤسسية:
قد تواجه المبادرات صدامًا مع الفصائل المستفادة من النظام القديم أو القوى الخارجية التي تستفيد من تهميش الإنتاج الوطني.
ضغوط السوق العالمية:
يحتاج النموذج الجديد إلى حماية مؤقتة من المنافسة غير المتكافئة في ظل العولمة وتدفق البضائع الرخيصة.
تحولات البنية التحتية الوطنية:
ضرورة إصلاح وترقية البنية التحتية التي تأثرت سلبًا بفترات النزاع والحصار، مما يتطلب استثمارات ضخمة وإرادة سياسية وموارد متاحة.
ثقافة الفساد والتواطؤ:
يحتاج المشروع إلى تغيير ثقافي بجانب الإصلاحات الهيكلية، ما يستلزم تعليم الكوادر الوطنية ورفع مستوى الوعي القانوني والإداري.
خامسًا: خاتمة الفصل
تشكل السياسة الاقتصادية العامة في مشروع النهضة حجر الزاوية لاستعادة كرامة الدولة ومناصرة سيادتها الاقتصادية. إنها دعوة لتحويل الفوضى الاقتصادية والتبعية المستعرة إلى إنتاج سيادي يعيد للمواطن السيطرة على مصير بلده. عبر هذه المبادرات، نسعى لإعادة بناء الاقتصاد السوري على أسس العدالة والتوزيع العادل للثروات، مستندين إلى مواردنا الوطنية، وملتزمين بقضاء الفساد وتعزيز الشفافية.
في نهاية المطاف، ليس الاقتصاد مجرد مادة أولية للنمو، بل هو وسيلة تحقيق الحرية الوطنية، وإعادة إنعاش روح الإنتاج والاستقلال في قلب سوريا الجديدة.