web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الثاني

الفصل السابع السياسة الزراعية والريفية

من التصحر إلى الاكتفاء

مقدمة تمهيدية

لم تكن الزراعة في سوريا قطاعًا اقتصاديًا فحسب، بل كانت لقرون عمودًا فقريًا للمجتمع والدولة، ومصدرًا لهوية ريفية متجذرة، واستقرارًا غذائيًا قلّ نظيره في الإقليم.

لكن هذا القطاع، الذي شكّل في يوم من الأيام ضامنًا للأمن الغذائي ومصدرًا للسيادة الاقتصادية، تعرّض خلال العقود الماضية لعملية تهميش مركّب، أدت إلى تصحر الأرض، وهجرة الإنسان، وانهيار البنية الإنتاجية.

فمن سياسات الإهمال المقصود لصالح الريع النفطي، إلى استخدام الزراعة أداة ولاء سياسي واحتكار خدمات، وصولًا إلى النزاع المسلح الذي دمّر البنية التحتية الريفية وشرّد الملايين من سكان الأرياف…
كل ذلك حوّل الريف السوري من سلة غذاء إلى مساحة نزيف بشري واقتصادي، وأفقد الدولة أحد أهم أعمدتها الإنتاجية والاجتماعية.

في مشروع النهضة، لا تُفهم الزراعة كملف تقني أو موسمي، بل كمحور استراتيجي لاستعادة السيادة الغذائية، وتوطين الإنسان في أرضه، وبناء اقتصاد وطني مستقل.

وهذا الفصل لا يضع حلولًا إسعافية، بل يقدّم سياسة زراعية–ريفية متكاملة، تُعيد الاعتبار للأرض، وتربط الإنتاج بالكرامة، وتحوّل الريف من هامش منسي إلى محرّك نهوض.

أولًا: تشخيص انهيار القطاع الزراعي والريفي

الإهمال المنهجي للريف في السياسات التنموية:

تمركز الاستثمار والخدمات في المدن الكبرى، وتهميش المناطق الريفية في التعليم، والبنية التحتية، والري.

تحوّلت الزراعة إلى عبء بدل أن تكون موردًا سياديًا للدخل الوطني.

فقدان الأمن المائي والزراعي:

سوء إدارة الموارد المائية، وتقلّص المساحات القابلة للزراعة بفعل التصحر ونضوب الأنهار والسدود.

استخدام المياه كورقة ضغط سياسي، مع غياب مشاريع تخزين وتنظيم.

تهجير سكان الريف ونزوح اليد العاملة الزراعية:

ملايين من الفلاحين هُجّروا أو أُجبروا على النزوح، ما خلق فراغًا بشريًا وتراجعًا حادًا في اليد العاملة الزراعية.

تفكّك الشبكات العائلية والاقتصادية التقليدية التي كانت تشكّل نواة الإنتاج الريفي.

تحوّل الأرض إلى سلعة مضاربة أو مجال سيطرة عسكرية:

بيع الأراضي أو السيطرة عليها من قِبل ميليشيات، وشيوع ظاهرة التأجير القسري أو الإقطاع الجديد.

انعدام التمويل والدعم التقني للفلاح:

انهيار بنوك التمويل الزراعي، وارتفاع تكاليف البذور والأسمدة والمياه والوقود، مقابل غياب الدعم الحقيقي أو التسويق العادل للمنتَج.

ثانيًا: أهداف السياسة الزراعية والريفية في مشروع النهضة

تحقيق السيادة الغذائية الوطنية:

تأمين احتياجات الشعب الأساسية من الغذاء عبر إنتاج محلي مستدام.

إعادة إحياء الريف كمجال إنتاج ومعيشة متكامل:

ليس فقط عبر الزراعة، بل عبر شبكات خدمات، بنى تحتية، وتنمية اقتصادية محلية.

استعادة العلاقة بين الإنسان وأرضه:

تمكين الفلاحين من العودة، واستعادة أراضيهم، وبناء حياة كريمة على أسس الإنتاج لا المساعدات.

تحديث الزراعة وتقنيتها:

إدخال أساليب الزراعة الذكية، وتطوير أدوات الإنتاج والتسويق بما يواكب المتطلبات الحديثة.

بناء شبكات تعاون ريفية عادلة وفعّالة:

تعاونية وليست بيروقراطية، قائمة على الإنتاج المشترك والتسويق الجماعي والتوزيع المنصف للعائد.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إطلاق “المشروع الوطني للسيادة الغذائية:

خطة شاملة تُعطى الأولوية في التمويل والدعم، وتُنفّذ على مدى خمس سنوات لاستعادة الاكتفاء الغذائي في المواد الأساسية (القمح، الحليب، الزيت، البيض، البقوليات…).

تأسيس “هيئة استصلاح الأراضي والمياه:

تُشرف على مشاريع الري واستعادة الأراضي المتضررة.

تعيد تنظيم استخدام المياه، وتنشئ شبكات ري حديثة تعتمد على الترشيد والتدوير.

إعادة بناء البنية التحتية الريفية:

شبكات طرق زراعية، مستودعات تبريد، أسواق مركزية، مراكز إرشاد زراعي حديث.

مراكز تدريب للفلاحين، ومبادرات تمكين للنساء الريفيات.

إحياء الجمعيات التعاونية الإنتاجية والتسويقية:

تُدار بطريقة ديمقراطية، وتوفّر للفلاحين خدمات التمويل، والإنتاج المشترك، والتسويق الجماعي.

تحميهم من جشع الوسطاء، وتضمن لهم سعرًا عادلًا ومحفّزًا للاستمرار.

تمويل زراعي موجّه للفلاحين الصغار والمتوسطين:

تأسيس صندوق وطني للتمويل الزراعي، يمنح قروضًا بفوائد رمزية ضمن منظومة إشرافية صارمة.

تخصيص أراضٍ زراعية للفلاحين العائدين:

عبر قانون وطني يمنح الأفضلية للمتضررين والمهجّرين الراغبين بالعودة، ضمن إطار شفاف وعادل.

دمج السياسات الزراعية مع التنمية الريفية:

فلا يُفهم الريف فقط كمجال زراعي، بل كمجال سكني منتج متكامل يشمل الصحة، التعليم، النقل، الثقافة.

رابعًا: التحديات والضوابط

نقص الكوادر والخبرات في إدارة القطاع الزراعي بعد التهجير.

النفوذ الميليشياوي في المناطق الزراعية، وضرورة إعادة الأرض لسلطة القانون.

الآثار المتراكمة للتغير المناخي والتصحر، ما يستدعي حلولًا بيئية موازية.

ضعف الحوافز الإنتاجية في ظل تقلب الأسعار وكلفة المواد الأولية.

ولذلك لا بد من سياسات تسعير وطنية عادلة، وضمانات شراء من الدولة، ومراقبة شفافة لسلاسل الإنتاج والتوزيع.

خاتمة الفصل

ليست الزراعة مجرد قطاع مهمل في دولة متهالكة، بل هي بوابة السيادة الأولى، وحاضنة النهوض الأعمق.
من دون استعادة الأرض، لا تُستعاد الدولة. ومن دون عودة الفلاح إلى حقله، لا يمكن الحديث عن اقتصاد حقيقي أو أمن غذائي أو استقرار مجتمعي.

في مشروع النهضة، نُعيد الاعتبار للريف لا من باب الحنين، بل من باب الوعي العميق بأن السيادة تبدأ من حبة قمح، ومن قطرة ماء، ومن بيت طيني فيه يدٌ تزرع، لا يدٌ تتسوّل.

وهكذا يُعاد بناء سوريا: من التراب الصادق، لا من ناطحات القهر.