القسم الثالث عشر – الباب الثاني
الفصل التاسع سياسة الموارد والطاقة
من الاستنزاف إلى الحوكمة المستدامة
مقدمة تمهيدية
في قلب كل سيادة اقتصادية تقف قضية الموارد والطاقة. فهي ليست مجرد أرقام في ميزانية الدولة، بل مكوّن وجودي من مكونات الكرامة والسيادة والبقاء. فالأمم التي لا تُحسن إدارة مواردها، مهما عظُمت ثرواتها، تعيش في الفقر والخضوع.
وسوريا، رغم ما تملكه من تنوع في مصادر الطاقة (نفط، غاز، مياه، شمس، رياح، أراضٍ خصبة…)، تحولت إلى دولة منهكة الطاقة، مستنزفة الموارد، تُدار فيها الثروات بمنطق الغنيمة، وتُوزّع بعقلية الولاء لا الكفاءة.
لقد لعبت الطاقة في عهد النظام السابق دورًا مركزيًا في بناء منظومة الفساد: النفط كان ممسوكًا بقبضة أمنية، الكهرباء تخضع لابتزاز سياسي، الموارد المائية تُهدر دون خطة، والقطاع برمته يعيش على استثمارات محدودة، وتقنيات متهالكة، وغياب شبه كامل للحوكمة.
في مشروع النهضة، لا تُفهم الطاقة بوصفها سلعة، بل بوصفها حقًا سياديًا مشتركًا، وركيزة للاستقلال، وأداة لبناء الاقتصاد المنتج.
ولهذا، تُطرح هذه السياسة لإعادة تعريف العلاقة مع الموارد، لا باعتبارها احتياطيًا نُقاتل عليه، بل موردًا نُحسن استثماره، ونسخّره للإنسان، ونحميه من النهب والاستنزاف.
أولًا: تشريح أزمة الموارد والطاقة في سوريا
الاستنزاف السياسي للثروات:
تم تسخير عائدات النفط والغاز لدعم الأجهزة الأمنية، والطبقة الحاكمة، بدل استثمارها في مشاريع تنموية.
وُقّعت عقود استخراج طويلة الأمد بشروط مجحفة، مع قوى أجنبية، دون شفافية أو رقابة.
انهيار البنية التحتية الطاقوية:
تدمير شبكات الكهرباء، والمصافي، ومحطات الضخّ، وتوقف مئات الآبار عن العمل.
تقنيات قديمة، وهدر تقني عالٍ، وغياب للاستثمار في الطاقة المتجددة.
غياب العدالة في توزيع الموارد:
مناطق كاملة محرومة من الكهرباء أو المياه أو الوقود، مقابل امتيازات غير مبرّرة لمناطق النفوذ السياسي أو العسكري.
المضاربة والفساد في سوق الطاقة:
انتشار السوق السوداء، وسرقة المحروقات، واحتكار المازوت والغاز لصالح شبكات الولاء.
التبعية للخارج في الطاقة والموارد الاستراتيجية:
الاعتماد على استيراد الكهرباء أو المشتقات، دون وجود خطط اكتفاء ذاتي أو تنويع للموارد.
ثانيًا: أهداف سياسة الموارد والطاقة في مشروع النهضة
تحقيق السيادة الطاقوية الوطنية:
تقليل الاعتماد على الخارج، وزيادة الإنتاج الوطني من النفط والغاز والكهرباء.
حوكمة الموارد العامة وفق معايير العدالة والشفافية:
إخراج قطاع الطاقة من منطق “المزرعة”، ووضعه تحت رقابة مؤسسية ومجتمعية.
الانتقال التدريجي نحو الطاقة المتجددة:
استثمار الشمس والرياح والكتلة الحيوية في مشروع طاقة وطني مستدام.
ربط الطاقة بالتنمية المحلية:
توزيع عادل للموارد، وخدمة المجتمعات المحرومة، وربط الريف والمدن بشبكة موحّدة للطاقة والمياه.
تأميم جزئي للمصالح الاستراتيجية دون الإخلال بالشراكات الإنتاجية:
إعادة النظر في العقود المجحفة، وفرض الشفافية على كل اتفاقية تتعلق بالموارد الوطنية.
ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة
تأسيس “المؤسسة الوطنية للموارد السيادية”:
تشرف على إدارة النفط، الغاز، المياه، الثروات المعدنية، والطاقة المتجددة.
تُدار من مجلس مستقل، يخضع لمساءلة البرلمان، ويقدّم تقارير علنية سنوية.
إعداد “خريطة وطنية شاملة للموارد”:
توثيق دقيق لجميع الآبار، المحطات، الثروات المعدنية، شبكات المياه، السدود، الإمكانيات المتجددة…
تُعتمد كمرجعية أساسية لكل السياسات والخطط التنموية.
إطلاق “برنامج الاكتفاء الطاقوي المحلي”:
استعادة آبار النفط والغاز المتوقفة، وصيانة الشبكات الكهربائية، ودعم الطاقة الكهرومائية والحرارية.
بناء محطات طاقة شمسية ولا مركزية، خاصة في المناطق المعزولة أو الريفية.
إعادة التفاوض بشأن العقود المجحفة:
مراجعة كل الاتفاقيات السابقة مع الشركات الأجنبية (الروسية، الإيرانية، وغيرها)، وفق مبدأ الشفافية والمصلحة الوطنية.
ضمان الشفافية المالية والرقابة المجتمعية:
إعلان الإيرادات والمصروفات الخاصة بالموارد، وربطها مباشرة بالموازنات المحلية ومشاريع التنمية.
إقرار “قانون سيادة الموارد الوطنية”:
يمنع الخصخصة الكاملة لأي قطاع استراتيجي، ويحدد أطر الشراكة بين القطاع العام والخاص ضمن سقف السيادة.
رابعًا: التحديات الهيكلية
الصراع الجيوسياسي على الموارد:
وجود قوات أجنبية تسيطر فعليًا على حقول رئيسية، كقسد والتحالف الدولي في شرق سوريا.
الفساد الموروث والمؤسسي في قطاع الطاقة:
الحاجة إلى تطهير إداري شامل، وتفكيك الشبكات المتورطة.
ضعف البنية التقنية والإدارية:
انعدام الكفاءات، والحاجة إلى تدريب سريع وتأهيل فني شامل.
الممانعة المحلية في المناطق المنتجة:
بسبب فقدان الثقة، أو الشعور بالحرمان التاريخي من عائدات الثروات.
خامسًا: فلسفة السيادة المستدامة
إن مشروع النهضة لا يكتفي باستعادة السيطرة على الموارد، بل يسعى إلى بناء نموذج سيادي مستدام، قائم على العدالة والكفاءة والابتكار.
الموارد الوطنية ليست كنزًا يُخزّن، بل طاقة تُوزَّع بالعدل، وتُدار بالعقل، وتُستثمر من أجل الإنسان لا النظام.
فمن دون موارد خاضعة للحوكمة، لا معنى للدولة، ولا معنى للنهضة.
خاتمة الفصل
لقد كانت الموارد في سوريا، لعقود، سلعة للنهب، لا ركيزة للتنمية.
وفي اللحظة التي تُستعاد فيها الدولة من قبضة الفساد، يجب أن تُستعاد فيها الموارد من قبضة المصالح.
سياسة الموارد والطاقة في مشروع النهضة ليست فقط محاولة لإعادة توزيع الثروة، بل هي محاولة لإعادة معنى السيادة نفسه.
فالسيادة لا تكون في السياسة وحدها، بل في الخبز، والماء، والنور، والنفط، والمحاسبة