web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الرابع

الفصل الثامن عشر السياسة الثقافية

من الفرض إلى التنوع الخلّاق

مقدمة تمهيدية

في الدول التي سُحقت سياسيًا، يكون المجال الثقافي أول ما يُدجّن، وآخر ما يُحرَّر.

وفي سوريا، لم تكن الثقافة حيّزًا حرًا، بل كانت — على مدار عقود — حقلًا مسيّجًا بالأوامر، والمُقدّسات الأيديولوجية، والرقابة، و”الذوق الرسمي”.

لقد وُضِع الكُتّاب والمبدعون بين خيارين: إمّا أن يكونوا صدى للسلطة، أو أعداء لها.

وحوصرت الفنون، وقُمعت المبادرات، وتم تدمير الحيوية الثقافية التي كانت تُميّز سوريا تاريخيًا، من المسرح، إلى السينما، إلى النشر، إلى الفكر.

وحين انفجرت البلاد، انفجرت معها ذاكرتها:

ضاعت المعالم،

وتفتّتت الهويات،

وأُحرِقت الكتب أو صادرتها قوى الأمر الواقع،

وغاب السؤال الثقافي وسط الضجيج العسكري والسياسي.

في مشروع النهضة، لا تُستعاد الثقافة بوصفها زينة الدولة، بل بوصفها روحها، وطريقتها في فهم نفسها، وإنتاج تنوعها، وصياغة وعيها.

السياسة الثقافية ليست “دعمًا” للفنانين فقط، بل هي تأسيسٌ لفضاء سيادي حر، تعددي، نقدي، منتج للمعنى، ومانح للذاكرة صوتًا وجسدًا.

أولًا: تشريح أزمة الثقافة في سوريا

سيطرة الدولة الأمنية على المجال الثقافي

تم إخضاع اتحادات الكُتّاب والفنانين للرقابة، وتحويل المعارض والمهرجانات إلى أدوات دعائية.

تهميش الفنون المستقلة، والمبادرات الحرة، والأصوات الناقدة

تم قمع الإبداع غير الموجّه، وحُوربت الثقافة التي لا تخدم رواية السلطة.

ضعف البنية التحتية الثقافية وانهيارها خلال الحرب

تهدّم المسارح، إغلاق دور السينما، تراجع حركة النشر، وانقطاع العلاقات مع العالم الثقافي الخارجي.

تسييس الهوية الثقافية وتهميش التعدد

اختزال “الهوية السورية” في نموذج سلطوي واحد، وإقصاء باقي الهويات المحلية والإثنية والفنية واللغوية.

نزيف الكوادر الثقافية وهجرتها أو تغييبها

فقدت البلاد مئات المفكرين، الفنانين، المترجمين، الناشرين، إمّا بالهجرة أو القمع أو الإهمال.

ثانيًا: أهداف السياسة الثقافية في مشروع النهضة

تحرير المجال الثقافي من الوصاية والتوجيه السلطوي.

إعادة بناء البنية التحتية الثقافية في المدن والأرياف والمخيمات.

دعم حرية التعبير الفني والفكري، وتشجيع النقد بوصفه أداة بناء لا هدم.

استعادة التعدد الثقافي السوري بوصفه قوة لا تهديدًا.

إعادة وصل سوريا بالعالم الثقافي، وتأسيس فضاء إنتاج معرفي حي وحر.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إصدار “الميثاق الوطني للثقافة والهوية

وثيقة تأسيسية تُقرّ بالتعدد الثقافي السوري، وتضع الثقافة خارج الاستقطاب السياسي، وتؤكد استقلالها عن أي سلطة تنفيذية أو حزبية.

تأسيس “المجلس الأعلى للثقافة والفنون

هيئة مستقلة تُنتخب من الوسط الثقافي، تُشرف على رسم السياسات، تمويل المبادرات، تنظيم الفعاليات، وضمان الحريات الإبداعية.

إنشاء مراكز ثقافية محلية في كل محافظة

مكتبات عامة، صالات عرض، مسارح صغيرة، فضاءات للنقاش والفن المجتمعي، بإدارة لا مركزية مستقلة.

دعم صناديق النشر، الترجمة، والإنتاج الفني المستقل

عبر تمويل شفاف ومفتوح، يشجّع المبادرات الفكرية، ويكسر احتكار المؤسسات الرسمية للفعل الثقافي.

إحياء الأرشيف الثقافي السوري وحمايته

عبر مشروع وطني رقمي وأرشيفي، يستعيد المكتبات، والوثائق، والذاكرة المرئية والمكتوبة، ويوثّق تاريخنا الثقافي المشترك.

ربط الثقافة بالتعليم، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية

إدراج التربية الفنية والفكرية في المدارس، وربط الفن بالمسألة الاجتماعية، وتعزيز مفاهيم الجمال والذوق والهوية.

حماية المبدعين من الرقابة والاضطهاد والإقصاء

عبر قانون خاص لحماية حرية التعبير الفني، وضمان استقلال المؤسسات الثقافية، ومنع التدخل في نتاجها.

رابعًا: التحديات والألغام

بنية ثقافية منهارة ومؤسسات خاوية من الداخل.

نخب ثقافية مأزومة أو منقسمة بين الانحيازات السياسية.

افتقار الجمهور للثقة في “المثقف” بعد سنوات من التدجين أو الصمت أو الانتهازية.

الخلط بين الحرية الثقافية والانفلات أو التشويه، مما يتطلب وعيًا موازيًا لا وصاية مضادة.

خامسًا: الثقافة بوصفها سلطة مضادة لا مكمّلة

في مشروع النهضة، لا يُطلب من الثقافة أن “تجمّل الدولة”، بل أن تُحرّجها، وتسائلها، وتُعبّر عن الناس، وتحفظ تعددهم، وتمنحهم صوتًا لا تعبوية فيه ولا تبعية.

فالثقافة ليست خطابًا جاهزًا، بل فعل بناء مستمر، ينحت المعنى وسط الرماد، ويزرع الجمال في وجه القبح، ويُنتج التنوّع بدل الصمت.

خاتمة الفصل

في بلادٍ خُنقت فيها الكلمة، وشُوّهت الهوية، واستُبدلت الذاكرة ببلاغات السلطة، يكون الفعل الثقافي فعل مقاومة، وفعل تأسيس.
وفي سوريا التي نريدها، لا تعود الثقافة جُزءًا من التزيين الوطني، بل تعود لتكون قلب الوطن الناطق، وضميره النقدي، ومساحته الحرّة التي لا تنتمي لأحد سوى للناس.