web analytics
القسم الثالث عشر – الباب الرابع

الفصل التاسع عشر السياسة البيئية

من التدمير إلى استعادة التوازن

مقدمة تمهيدية

في الدول التي تدمّرت بالحروب، تُقاس الكارثة لا فقط بعدد الضحايا أو حجم الأنقاض، بل بما جرى للطبيعة نفسها: للأرض، والماء، والهواء، والتوازن الذي يربط الإنسان بمحيطه.

وفي سوريا، لم تكن البيئة ضحية عرضية، بل كانت ميدانًا للتخريب المنهجي، والتجاهل الطويل، والاستثمار العدواني الذي تواطأت فيه السلطة مع النهب، والفساد، والجهل.

الأنهار جُفّفت أو لوثت،

الغابات أُحرقت،

الأراضي الزراعية صودرت أو صحّرت،

مياه الشرب تراجعت كميًّا ونوعيًّا،

النفايات الطبية والصناعية تُرمى في العراء،

والتمدّد العمراني غير المخطّط ابتلع الطبيعة دون رحمة.

لم يكن هناك “سياسة بيئية” في سوريا، بل غياب تام لها، مع تحويل البيئة إلى فراغ قانوني، واعتبارها هامشًا لا يستحق التخطيط، بل ساحة مفتوحة للاستنزاف.

في مشروع النهضة، تُستعاد البيئة كأحد أعمدة السيادة الشاملة: فلا اقتصاد بلا موارد متجددة، ولا صحة بلا بيئة متوازنة، ولا كرامة بلا ماء وهواء نقيَّين، ولا عدالة من دون توزيع بيئي عادل.

البيئة هنا ليست مجرد “ملف”، بل هي شرط أساسي للحياة ولإعادة بناء سوريا القابلة للعيش.

أولًا: تفكيك الانهيار البيئي في سوريا

الاستنزاف العشوائي للموارد الطبيعية

غياب الرقابة على استغلال المياه، الغابات، المقالع، الأراضي، والمراعي، ما أدى إلى تصحّر واسع وانهيار التنوع الحيوي.

غياب البنية التشريعية والمؤسسية للرقابة البيئية

ضعف القوانين، شح الموارد، غياب الكوادر، وانعدام الأجهزة التنفيذية الفعالة.

التدمير البيئي الممنهج خلال الحرب

استهداف البنى التحتية الحيوية (السدود، محطات المياه، شبكات الصرف الصحي)، إضافة إلى التلوث الناتج عن الذخائر والحرائق والانفجارات.

المناخ الإداري الفاسد

بيع التراخيص البيئية، التغاضي عن الانتهاكات الصناعية، وسوء إدارة موارد الدولة الطبيعية لصالح قوى النفوذ.

تغييب الوعي البيئي في الثقافة العامة

انعدام التربية البيئية، وعدم إشراك المواطنين في حماية بيئتهم، مع غياب مؤسسات مدنية بيئية حقيقية.

ثانيًا: أهداف السياسة البيئية في مشروع النهضة

حماية الموارد الطبيعية بوصفها جزءًا من السيادة الوطنية.

استعادة التوازن البيئي، ومحاربة التصحّر، والتلوث، والانفجار السكاني العشوائي.

إدماج البعد البيئي في كل خطط الدولة التنموية (الزراعة، الصناعة، الطاقة، التخطيط الحضري…).

تأمين العدالة البيئية في التوزيع بين المدن والأرياف والمناطق المحرومة.

تحويل الوعي البيئي إلى ثقافة مجتمعية وسلوك يومي لا شعارات فارغة.

ثالثًا: المبادرات التنفيذية المقترحة

إقرار “الميثاق البيئي الوطني

وثيقة سيادية تُكرّس حماية البيئة كحق من حقوق الإنسان، وواجب على الدولة، ومبدأ موجه لكل السياسات القطاعية.

تأسيس “هيئة الرقابة البيئية العليا

جهة مستقلة تُراقب تنفيذ السياسات البيئية، تُصدر تقارير دورية، وتتابع التراخيص والالتزامات البيئية للمشاريع العامة والخاصة.

إطلاق “البرنامج الوطني لاستعادة التوازن البيئي

يشمل إعادة التشجير، تنظيف مصادر المياه، بناء محطات معالجة حديثة، وإزالة التلوث في المناطق الصناعية المتضررة.

سياسة مائية جديدة قائمة على الإدارة المستدامة

تشمل حماية الأحواض الجوفية، بناء السدود الذكية، استخدام تقنيات الري الحديث، ومنع التعدي على مجاري الأنهار.

دعم مشاريع الطاقة المتجددة والمباني الخضراء

تحفيز استخدام الشمس والرياح، وتطوير قوانين تشجّع المعايير البيئية في الإنشاء والبناء، وتقليل انبعاثات الكربون.

إدماج التربية البيئية في كل مراحل التعليم

منهج حديث يعزز السلوك الواعي بيئيًا، ويربط الطفل ببيئته بوصفها كيانًا حيًّا لا مجرد مصدر موارد.

تمكين المجتمع المدني البيئي

تسهيل تأسيس الجمعيات البيئية، دعم المبادرات المجتمعية، وإنشاء شبكة تطوعية وطنية لحماية الموارد ومراقبة الانتهاكات.

رابعًا: التحديات

ضعف التمويل المخصص للقطاع البيئي، رغم أن الاستثمار فيه يعود بالفائدة على الصحة والاقتصاد.

استمرار الذهنية المركزية التي تعتبر البيئة ترفًا لا أولوية.

غياب كوادر متخصصة قادرة على إدارة وتعقّب السياسات البيئية المتقدمة.

مقاومة شبكات المصالح التي ترى في الرقابة البيئية خطرًا على أرباحها.

خامسًا: البيئة كجزء من العقد السيادي

في مشروع النهضة، لا تُفصل البيئة عن الاقتصاد، ولا تُختزل في المحميات، بل تُفهم كشرط وجودي–سيادي.
فلا معنى للكرامة الإنسانية إن كان الهواء ملوثًا، والماء مالحًا، والأرض ميتة.
ولا معنى للعدالة إن كانت المدن تخنق الأرياف، أو الأغنياء يملكون الماء النقي، فيما الفقراء يشربون السموم.

خاتمة الفصل

إن استعادة سوريا لا تبدأ فقط من إصلاح السياسة أو الاقتصاد، بل من التصالح مع الأرض، ومع النهر، ومع الغابة، ومع منطق الحياة نفسه.

وفي وطنٍ لم يعد صالحًا للتنفس، تصبح البيئة ليست ملفًا إداريًا، بل معركة وجود، ومعيار سيادة، ومسؤولية أخلاقية وجماعية تجاه من سيأتون بعدنا.