web analytics
القسم الرابع عشر – الباب الثاني

الفصل السادس القيادة النقدية

من الشرعية الكاريزمية إلى الشرعية الأخلاقية

مقدمة الفصل

في مراحل التحوّل الكبرى، تُولد في المجتمعات قيادات تحمل على عاتقها آمال الناس وتطلعاتهم، وقد تمتلك من الكاريزما والرمزية ما يمنحها شرعية تلقائية في الوجدان العام. لكن الكاريزما، مهما بلغت، تظل شرعية هشّة إن لم تتحوّل إلى التزام أخلاقي، ومساءلة ذاتية، وخضوع دائم لمعيار التقييم العام.

من هنا، لا يُبنى مشروع النهضة على الزعامة العابرة أو الرمزية الفوّارة، بل على نموذج جديد من القيادة: القيادة النقدية – التي لا تكتفي بأن تكون ملهمة، بل تكون مسؤولة، قابلة للنقد، ومتقبّلة للمراجعة.

القيادة في مشروع النهضة لا تُؤلّه، ولا تُحاط بهالة فوق القانون، بل تُبنى على فكرة أن السلطة، حتى حين تكون نظيفة، تظل بحاجة إلى ضوابط، وأن القائد، حتى وإن اجتمع الناس عليه، يجب أن يظل خاضعًا لامتحان الضمير، ولحق الجميع في محاسبته.

أولًا: من الكاريزما إلى الالتزام – تفكيك وهم “القائد المعصوم

لطالما استخدمت الأنظمة السلطوية فكرة الزعامة كدرع ضد النقد، ومارست تقديس القادة لتكميم الأفواه، وتحويل أي اعتراض إلى خيانة. في مشروع النهضة، يتم تجاوز هذه العقدة من خلال:

تحويل الزعامة إلى تكليف لا تشريف.

رفض بناء الشرعية على التاريخ الشخصي أو البطولة الفردية.

إقرار أن القيادة ليست تفويضًا دائمًا، بل تعاقدًا قابلًا للانتهاء أو المراجعة.

منع استخدام الرمزية الشخصية في المؤسسات العامة أو التعبئة الرسمية.

بهذا، تُنزع الهالة عن القائد، ليصبح موظفًا عامًا ذا مسؤولية مضاعفة لا امتياز مضاعف.

ثانيًا: القيادة بوصفها مسؤولية قابلة للمساءلة

القيادة الأخلاقية لا تعني فقط النية الحسنة، بل تعني أن يُحاسَب القائد قبل غيره، وأن يُضرب به المثل في الخضوع للنقد والمراجعة. ويتحقق ذلك من خلال:

قوانين تتيح مساءلة القادة أمام الهيئات الرقابية والتشريعية دون عوائق بروتوكولية.

إلزام القائد بتقديم تقرير دوري علني عن أدائه، يُعرض للنقاش العام.

تأسيس تقليد سياسي يقوم على التواضع أمام النقد لا العدوانية تجاهه.

إقرار مبدأ تداول القيادة داخل المؤسسات العليا وفق معايير شفافة وغير احتكارية.

هكذا تصبح القيادة وظيفة مراقَبة لا موقعًا خارج المساءلة.

ثالثًا: القيادة النقدية داخل المشروع – النقد الذاتي كفضيلة مؤسسية

في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى النقد الداخلي على أنه ضعف أو تهديد، بل على أنه شرط للبقاء. ولذلك:

يُشجَّع القادة على فتح حوارات داخل مؤسساتهم حول الخيارات المتخذة.

يُعتبر الاعتراف بالخطأ شجاعة سياسية لا هزيمة رمزية.

يُمنح المستشارون والمساعدون حق نقد القرار القيادي بلا خوف من الإقصاء.

يُكرّس تقليد جلسات المراجعة القيادية في نهاية كل مرحلة تنفيذية، يُشارك فيها المجتمع المدني والإعلام والمؤسسات الرقابية.

بهذا لا تبقى القيادة فضاءً مغلقًا، بل تتحول إلى حالة وعي نقدي مستمر.

رابعًا: من الزعامة الفوقية إلى القيادة الجماعية

يتم الانتقال من شخصنة القيادة إلى توزيعها على نخبة مسؤولة ومتوازنة، عبر:

إرساء مبدأ القيادة الجماعية في المجالس العليا للدولة.

تحديد الصلاحيات بشكل قانوني يمنع الانفراد ويمنح المؤسسات أولوية على الأفراد.

تعزيز الأدوار الرقابية على القرار القيادي، من القضاء إلى المجتمع المدني.

تحويل القيادة من قرار فردي إلى حصيلة تشاورية ذات شرعية جماعية.

هكذا تُنتج الدولة قادة، لا تنتج القادة دولة على مقاسهم.

خامسًا: الشرعية الأخلاقية – امتحان دائم لا يُغلق

الشرعية في مشروع النهضة ليست توقيعًا يُمنَح مرة واحدة، بل هي امتحان مفتوح، لا يُنهيه النجاح في الماضي، ولا يختزله التأييد الشعبي اللحظي. وتشمل هذه الشرعية:

صدق القائد مع نفسه ومع مجتمعه.

احترامه للحق قبل أن يطالب الآخرين به.

خضوعه للقانون، لا فوقيته عليه.

سلوكه في المواقف الصعبة، حين يكون الخيار بين المصلحة العامة والراحة الشخصية.

استعداده للتنحي إن شعر أن بقاءه قد يتحوّل إلى عبء على المشروع.

بهذه الأخلاقيات، لا يُقاس القائد بكثرة أتباعه، بل بقدرته على الانصات، على المراجعة، وعلى الاعتذار.

خاتمة الفصل

القيادة النقدية ليست سلوكًا مثاليًا، بل ضرورة سياسية للدول التي لا تريد أن تعيد إنتاج الاستبداد باسم النهضة.

إنها القيادة التي لا تخاف من المراجعة، ولا تعتبر النقد عداءً، ولا تهرب من السؤال، ولا تحتمي بماضيها.

في مشروع النهضة، يُعاد تعريف القائد لا كمن يقود الناس من فوق، بل كمن يخوض معهم التجربة، يُصيب ويخطئ، ينجز ويُحاسَب، ويظل تحت سقف الوطن، لا فوقه.