القسم الرابع عشر – الباب الثاني
الفصل الثامن الإعلام النقدي
من الاحتواء إلى أدوات المساءلة السيادية
مقدمة الفصل
حين يُحتكَر الخطاب، تُحتكَر الحقيقة.
وفي الدولة التسلطية، يُختزل الإعلام إلى لسان السلطة، ويُختنق الفضاء العام بالرواية الرسمية الواحدة، ويتحوّل الصحفي إلى ناقل أو مروّج أو مُصفّق. أما في مشروع النهضة، فإن الإعلام لا يُفهم بوصفه سلطة رابعة فقط، بل بوصفه شريكًا سياديًا في الرقابة العامة، ومكوّنًا أساسيًا في البنية الأخلاقية للدولة، ومنصة مفتوحة للمساءلة لا أداة للهيمنة.
الإعلام النقدي ليس مجرد حق، بل ضرورة وجودية لأي مشروع تغييري. إذ لا يمكن بناء دولة تُحاسب نفسها، إن لم يكن هناك من يجرؤ على طرح الأسئلة، وكشف التناقضات، وإيصال صوت الناس، وفضح ما يُدار في الظل.
أولًا: الإعلام كحق سيادي لا منحة سلطوية
في مشروع النهضة، يُعاد تعريف الإعلام كأحد تجليات السيادة الشعبية، لا كامتياز تمنحه الدولة متى شاءت وتسحبه متى خافت. ويقتضي ذلك:
ضمان حرية الإعلام في الدستور لا في اللوائح الثانوية.
تحصين الصحفيين من أي ملاحقة أمنية أو قضائية خارج إطار قانون مهني واضح.
منع الاحتكار الإعلامي لأي جهة سياسية أو مالية أو دينية.
إلغاء الرقابة المسبقة على المواد الإعلامية، والاكتفاء بالمساءلة اللاحقة أمام هيئات مستقلة.
بهذا، يُستعاد المعنى الأصلي للإعلام: أن يكون فضاء للناس، لا صدى للسلطة.
ثانيًا: الإعلام كأداة رقابة علنية لا منصة دعائية
يتحوّل الإعلام في الدولة السيادية من سلطة تفسير إلى سلطة مراجعة. أي أنه:
يُمارس نقدًا علنيًا للسياسات الحكومية، دون خوف من سحب الرخصة أو تهديد بالإغلاق.
ينقل شهادات الناس كما هي، دون تشويه أو تصفية.
يُنجز تحقيقات استقصائية مهنية تتناول الفساد، وسوء الإدارة، والاحتكار، وغياب العدالة.
يُتيح مساحة للنقاش المفتوح بين المواطن والمسؤول، ويُحرج أصحاب القرار بأسئلة الواقع لا المجاملة.
الإعلام النقدي هنا لا يُعطى، بل يُنتزع بوصفه وظيفة أساسية في العقد السياسي الجديد.
ثالثًا: الإعلام كأداة تنوير لا تهييج
الإعلام النقدي لا يعني الفوضى، ولا يعني تحويل المنابر إلى ساحات شتم أو استعراض. بل يتأسس على:
الموضوعية كمبدأ أخلاقي لا كذريعة للحياد الكاذب.
التحقق كمنهج قبل النشر، والاعتراف بالخطأ إن حدث.
تمييز الخط التحريري بين الرأي والخبر، والتحقيق والتعبير.
إعطاء الأولوية للملفات التي تؤثر على حياة الناس، لا فقط ما يُرضي الإثارة اللحظية.
بهذا، لا يصبح الإعلام مجرد ناقد، بل فاعل في صناعة وعي وطني راقٍ، يمارس المساءلة دون أن ينحدر إلى الشعبوية أو العدوانية.
رابعًا: المنظومة الإعلامية – بنية مستقلة ومساءَلة من الداخل
لكي يؤدي الإعلام دوره الرقابي، يجب أن يُعاد تنظيمه وفق معايير الحوكمة والشفافية، ويتحقق ذلك عبر:
تأسيس مجلس إعلام وطني مستقل، يُشرف على التراخيص، ويضمن التعددية، ويمنع الاحتكار.
وضع ميثاق شرف إعلامي ملزم يُحدّد الحدود المهنية، دون خنق الحرية.
دعم الإعلام المحلي والمجتمعي بوصفه أداة تواصل مباشر بين الناس والسلطة.
تمكين النقابات الصحفية من حماية أعضائها، وتنظيم التكوين المهني، بما يرفع من جودة العمل الإعلامي ويُحصّنه ضد الانزلاق أو التوظيف الرخيص.
هذه البنية تُحصّن الإعلام من الخارج والداخل معًا، وتحوله إلى سلطة رقابية حقيقية قائمة على المصداقية.
خامسًا: الإعلام الرقمي والمساءلة التشاركية
في عصر الثورة الرقمية، لا يمكن فصل الإعلام عن فضاء الإنترنت، ولهذا يجب أن:
يُعتبر النشر الرقمي جزءًا من الحقل الإعلامي المحمي دستوريًا.
يُحمى المواطن الرقمي من الرقابة غير القانونية، ومن التجريم على أساس الرأي.
تُنظم العلاقة بين الصحافة التقليدية والمجتمع الرقمي ضمن إطار يُفعّل أدوات الرقابة الجماهيرية عبر:
الحملات المجتمعية.
منصات كشف الفساد.
المدونات الحقوقية والتحليلية المستقلة.
أدوات التفاعل الشعبي مع السياسات اليومية.
وبهذا، لا تعود الرقابة حكرًا على الصحافة المحترفة، بل تتحوّل إلى ممارسة مجتمعية سيادية تشاركية.
سادسًا: الحماية القانونية للرقابة الإعلامية
ولكي لا تكون الرقابة الإعلامية معرضة للانتقام أو التحجيم، لا بد من سنّ تشريعات تضمن:
عدم جواز ملاحقة الصحفي أو الإعلامي جزائيًا في قضايا الرأي والنقد السياسي.
عدم سجن أي صحفي بسبب عمله الرقابي مهما كانت الجهة المستهدفة، مع حصر المخالفات في إطار القانون المدني.
تجريم التحريض الإعلامي المبني على الكراهية، مع التمييز الصارم بين النقد والمساس بالكرامة الإنسانية.
تحديد آليات واضحة لحماية المصادر الصحفية ومنع إجبار الإعلاميين على كشفها.
بهذه الحماية، يُعاد للإعلام دوره الطبيعي: أن يقول ما لا تستطيع السلطة سماعه، دون أن يدفع ثمنًا خارج القانون.
خاتمة الفصل
في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى الإعلام كوسيلة مساعدة، بل كأداة سيادية تشارك في تصحيح المسار، وتكشف الخلل، وتحمي الوعي من الانزلاق نحو التزييف أو الصمت.
إن الإعلام النقدي هو مرآة الضمير العام، وحارس المعنى، وضمانة أن لا تختفي الأخطاء خلف الأبواب المغلقة.
وبقدر ما ننجح في تحرير الكلمة، نكون قد خطونا خطوة فعلية نحو تحرير الدولة من نفسها، وجعلها خاضعة، لا للهتاف، بل للسؤال، والمراجعة، والوضوح.
وبقدر ما ننجح في تحرير الكلمة، نكون قد خطونا خطوة فعلية نحو تحرير الدولة من نفسها، وجعلها خاضعة، لا للهتاف، بل للسؤال، والمراجعة، والوضوح.