القسم الرابع عشر – الباب الرابع
الفصل الرابع عشر منتديات المجتمع المدني
من العزل إلى التشاركية التنموية
مقدمة الفصل
لم يكن للمجتمع المدني في سوريا، تاريخيًا، سوى دور هامشي مشروط، إما بالموافقة الأمنية أو بالتوظيف السياسي. فجرى تفريغه من مضمونه النقدي والتنموي، واستُخدم كواجهة دعائية للنظام، أو جُرّد من حقه في التنظيم المستقل. وبعد الثورة، وُلد مجتمع مدني جديد من رحم الألم، لكنه ظل معزولًا، متهمًا، أو محاصرًا بين ضغوط التمويل الأجنبي وتضييق سلطات الأمر الواقع.
في مشروع النهضة، لا يُعامل المجتمع المدني كطرف طارئ على الدولة، بل يُعاد تعريفه كـشريك أساسي في السيادة التنموية، وفي الرقابة، وفي بناء الشرعية.
وهكذا، لا يُطلب منه فقط التفاعل مع الخطط، بل المساهمة في وضعها، ومراقبة تنفيذها، وتصحيح مسارها.
منتديات المجتمع المدني ليست مجرد منصات نقاش، بل أجسام مؤسساتية معترف بها قانونًا، مُمكنة إداريًا، ومفعّلة سياسيًا، تُنهي العزلة التي فُرضت على المجتمع السوري، وتُخرج الفعل المدني من حالة الطوارئ إلى الحالة السيادية الطبيعية.
أولًا: من المجتمع المدني المعزول إلى الشريك الدستوري
في سوريا ما بعد التسلط، يُعاد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني من خلال:
الاعتراف الدستوري بالمجتمع المدني كقوة رقابية وتنموية مستقلة.
إلغاء شرط الترخيص الأمني لأي جمعية أو هيئة مدنية، واستبداله بإشراف إداري غير تدخلي.
تحصين الحق في التنظيم والتمويل والعمل المجتمعي دون قيود سياسية أو عقائدية.
تخصيص تمثيل رسمي للمجتمع المدني في كل المجالس الحوارية والتقييمية والسياساتية.
هذا الاعتراف ليس مجاملة، بل ضرورة لإعادة بناء الثقة والشرعية الاجتماعية.
ثانيًا: المنتديات كمنصات فاعلة لا كجمعيات صامتة
منتديات المجتمع المدني لا تُبنى على النمط الجمعياتي التقليدي، بل تُؤسس وفق تصور سيادي جديد، يجعل منها:
هيئات نقاش دائمة للسياسات المحلية والتنموية في المحافظات.
فضاءات لتجميع الطاقات المدنية، وربطها بالمؤسسات العامة عبر شراكات واضحة.
نقاط وصل بين الدولة والمجتمع المحلي لرصد الاحتياجات، ونقلها إلى صانع القرار.
مراكز لإنتاج المعرفة المجتمعية، عبر الأبحاث والمقترحات ومراقبة الخدمات.
بهذا، تُصبح المنتديات أدوات وطنية لا مجرد جمعيات تمويلية.
ثالثًا: آليات تمكين المنتديات – قانون، تمويل، اعتراف
لكي تؤدي المنتديات دورها السيادي، لا بد من تفعيل ثلاث ركائز:
إطار قانوني ضامن
يضمن استقلالها، ويحمي أعضاءها، ويمنع تدخل السلطة التنفيذية في قراراتها.
يُلزم الدولة بالتجاوب مع تقاريرها الدورية ضمن آجال محددة.
تمويل مستقر وشفاف
جزء من موازنة الدولة يُخصص لدعم المنتديات على قاعدة الاستحقاق والكفاءة.
حق الوصول إلى التمويل المحلي والدولي ضمن آلية مراقبة مالية علنية، دون وصاية سياسية.
اعتراف رسمي بوظائفها السياسية والتنموية
تمثيلها في المجالس المحلية ومجالس المحافظات.
استضافتها للقاءات رسمية مع الجهات التنفيذية والتشريعية.
إشراكها في مراحل التخطيط للمشاريع العامة.
رابعًا: المنتديات كجسور مجتمعية
لا تُقيم المنتديات جدارًا بين المواطن والدولة، بل جسورًا حيوية بينهما، وتشمل أدوارها:
تحفيز المشاركة السياسية على المستوى المحلي، خاصة للفئات المهمشة.
رعاية حوارات مجتمعية لحل النزاعات الأهلية، والمساهمة في بناء السلم الأهلي.
تنظيم حملات مدنية للرقابة على التعليم، الصحة، البيئة، والنزاهة الإدارية.
تعزيز ثقافة المساءلة داخل المجتمع نفسه، لا فقط تجاه الدولة.
إنها، بهذا المعنى، مؤسسات نهضوية تُرمّم النسيج الأهلي، وتُعيد بناء العقد الاجتماعي من القاعدة.
خامسًا: المنتديات والعدالة المجتمعية
بما أن التهميش المناطقي والطائفي والاقتصادي كان جزءًا من الأزمة السورية، فإن المنتديات تُعد أداة تصحيحية فعالة عبر:
نقل صوت المناطق النائية والمحرومة إلى مركز القرار.
تحويل المواطن المهمّش من متلقٍ للسياسة إلى مشارك في صياغتها.
ضمان التمثيل الحقيقي للنساء، الشباب، وذوي الإعاقة في مسارات التقييم والتنمية.
تفكيك بنية الاحتكار السياسي عبر خلق طبقة مدنية فاعلة ومستقلة.
خاتمة الفصل
في مشروع النهضة، لا نُريد مجتمعًا مدنيًا خاضعًا أو مهادنًا أو مشغولًا بالتجميل، بل نُريد قوة مدنية سيادية، تُراقب، تُقترح، تُصحّح، وتبني من الداخل.
منتديات المجتمع المدني ليست بديلًا عن الدولة، بل سندها الطبيعي حين تنحرف، وشريكها حين تتقدّم.
وبقدر ما نُنجح هذه المنتديات في التحوّل إلى بنى حيّة تُعبّر عن الناس وتُحرّك السياسات، بقدر ما نكون قد أعدنا إلى المجتمع السوري صوته، وإلى الدولة توازنها، وإلى السياسة معناها الأصيل: أن تُدار الحياة العامة بشراكة، وعدالة، ووعي نقدي دائم.