القسم الرابع عشر – الباب الرابع
الفصل الخامس عشر الندوات التقييمية
تغذية راجعة مؤسساتية للمشروع
مقدمة الفصل
من بين كل أدوات التصحيح المؤسسي، تبقى الندوات التقييمية إحدى أكثرها حيوية ومرونة في السياق السوري، لأنها تفتح المجال أمام تلاقح مباشر بين المعرفة المتخصصة، والقرار التنفيذي، والتجربة المجتمعية. وفي بلدٍ عانى من القطيعة بين السياسات وواقع الناس، ومن تكلّس الإدارة، وتغييب الكفاءات، لا يمكن بناء مشروع وطني نهضوي دون إتاحة فضاء منظم لمراجعة التجربة بشكل دوري، علني، وعلني.
في مشروع النهضة، لا تُترك عملية التقييم لمكاتب مغلقة أو تقارير بيروقراطية صامتة، بل تُفتح على العلن من خلال ندوات وطنية رسمية–مجتمعية، تُعقد وفق جدول منتظم، وتحضرها الدولة بكل مستوياتها التنفيذية، والمجتمع المدني، والجامعات، والخبراء، والمواطنون، لتقديم ما يشبه تغذية راجعة متواصلة للمشروع ككل، تُقيّم الإنجاز، تكشف الخلل، وتقترح التصويب.
هذه الندوات ليست فعالية علاقات عامة، بل ممارسة سيادية لإعادة توجيه الدولة نحو المسار الذي يضمن صدقها، وكفاءتها، وتطابقها مع آمال السوريين.
أولًا: فلسفة الندوات التقييمية – حين يصبح العلم صوت الضمير
الندوات التقييمية لا تُبنى على تقارير جاهزة، بل على الاعتراف بأن المشروع النهضوي، مهما كانت قوته التأسيسية، سيظل معرضًا لأخطاء التنفيذ، وغواية الركود، وأحيانًا للانحراف الصامت.
وتقوم فلسفة هذه الندوات على:
تحويل التقييم من فعل بيروقراطي إلى ممارسة معرفية مجتمعية حية.
ربط السياسات العامة بمرآة الواقع بدل افتراض نجاحها المسبق.
إدخال الصوت الأكاديمي والبحثي في قلب دائرة القرار التنفيذي.
إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة حول فكرة “التغذية الراجعة المنظمة” كجزء من الشرعية السياسية.
ثانيًا: البنية التنظيمية – كيف تُبنى هذه الندوات؟
لكي تخرج الندوات من الصيغة الشكلية إلى الأثر الفعلي، تُنظّم وفق المبادئ التالية:
تعقد مرتين سنويًا على المستوى الوطني، ومرة واحدة على مستوى كل محافظة.
يتم تحديد محاورها بناء على التوصيات السابقة، أو تقارير الأداء، أو مؤشرات الخلل.
تُدار من قبل هيئة مستقلة علميًا وإداريًا، تضم جامعيين، قضاة، وممثلين عن مجالس الرقابة والمجتمع المدني.
تُعرض خلاصاتها أمام البرلمان والهيئات التنفيذية، وتُنشر نتائجها كاملة للرأي العام.
هذه البنية تجعل من الندوة حدثًا سياديًا لا مجرد نشاط معرفي.
ثالثًا: المشاركون – من يُقيّم ومن يُحاسب؟
تقوم القيمة المعنوية والسياسية لهذه الندوات على أنها لا تُدار من جهة واحدة، بل من تعددية صوتية مسؤولة، تشمل:
ممثلين عن الوزارات والمؤسسات الرسمية، لتقديم عرض عن السياسات المنفذة وتبريراتها.
خبراء مختصين مستقلين يُقيّمون الأثر بعيدًا عن الخطاب الرسمي.
فاعلين مدنيين ينقلون تجارب الناس وملاحظاتهم الميدانية.
إعلاميين وكتّاب رأي يعرضون الانطباع العام حول الأداء والسياسات.
شخصيات تمثّل المناطق والفئات التي تأثرت أو تضررت من مسارات التنفيذ.
وبهذا يتحول التقييم إلى مرآة وطنية شاملة لا صوتًا واحدًا.
رابعًا: مخرجات الندوات – ليست توصيات بل إجراءات تصحيح
ما تنتجه هذه الندوات لا يُخزّن، بل يُحوّل إلى مسارات فعلية:
خريطة قرارات تصحيحية ملزمة تُسلّم لمجلس السياسات الوطني.
توصيات بإعادة هيكلة بعض المشاريع أو تعديل أولوياتها الزمنية والمجالية.
مقترحات بتغييرات في المواقع القيادية للمؤسسات الفاشلة أو العاجزة.
استنتاجات معرفية تُحوّل إلى أوراق سياسات قابلة للتطبيق.
قوائم إنذار مؤسساتي تحدد الجهات المتكررة في الفشل أو المماطلة.
هكذا، يُحوّل صوت المجتمع إلى قرار، لا مجرد صدى.
خامسًا: نحو وعي وطني جديد – ثقافة التقييم لا ثقافة التبرير
ربما تكون الوظيفة الأعمق لهذه الندوات، هي إعادة تشكيل العقل السوري على قاعدة جديدة:
أن المسؤول ليس معصومًا، وأن الأداء يُراجع، لا يُحتفل به فقط.
أن المجتمع ليس متفرجًا، بل شريك في كل لحظة من المشروع الوطني.
أن المعرفة ليست رفاهًا، بل أداة تصحيح أساسية للسيادة.
أن الحوار الوطني لا يتم فقط حول المبادئ، بل حول التفاصيل اليومية التي تصنع العدالة أو تغتالها.
وبهذا، تكون الندوات التقييمية جهاز إنعاش دائم للضمير الوطني.
خاتمة الفصل
حين تتحدث الدولة مع نفسها، تُخدع.
وحين تُجري المراجعة داخل غرفها المغلقة، لا تُصحّح بل تُدار الأزمات.
أما حين تُفتح نوافذها وتستمع لمن في الخارج، من المتخصصين والمجتمع وأصحاب الخبرة، فإنها تبدأ أولى خطوات النجاة من نفسها.
الندوات التقييمية، كما يطرحها مشروع النهضة، ليست مناسبة خطابية، بل ممارسة سيادية مستمرة لإعادة ضبط البوصلة، وربط السياسة بالحقيقة، والسلطة بالمعنى، والتنمية بالإنسان.