web analytics
القسم الخامس عشر – الباب الأول

الفصل الثاني الدولة السورية الجديدة

هوية وطنية فوق الركام

مقدمة الفصل

إذا كانت النهضة السورية هي ولادة المعنى، فإن الدولة هي الجسد الذي يحتضنه. ففي سياق الانهيار السوري، لم تسقط الدولة وحدها، بل سقط معنى الانتماء ذاته. لم يعد السوري يعرف وطنه إلا كمساحة قهر، أو كذاكرة منفية، أو كجغرافيا تتنازعها الرايات. تفكّك المعنى كما تفكّكت الخرائط، وتشوّهت الهوية كما تشوّهت السلطة. فكانت الحاجة إلى إعادة بناء الدولة، لا كسلطة إدارية،

بل كهُوية وطنية جديدة تُعيد لملايين السوريين ما سُلب منهم: شعور الانتماء، وحق الوجود، وكرامة الحضور. وهذا الفصل لا يطرح “نموذج حكم” فحسب، بل يعيد تعريف الدولة بوصفها كيانًا نفسيًا–اجتماعيًا–سياسيًا يعيد جمع السوريين في مشروع جامع، لا فوق الطوائف بل خارج منطق الطائفية، لا ضد التنوع بل محمول عليه.

أولًا: من الدولة الأمنية إلى الدولة الجامعة

 كانت الدولة السورية، كما عرفها السوريون، دولة أمن لا وطن، دولة ولاء لا مواطنة، دولة مركز لا شعب. لم تكن الدولة شاملة، بل حصرية. لم تكن حيادية، بل مُسيَّسة طائفيًا وعقائديًا. ولهذا، فإن الدولة السورية الجديدة لا تُبنى على استمرار القديم، بل على تجاوزه بالكامل:

  • لا دولة بعث ولا دولة طوائف، بل دولة عقد وطني مفتوح.
  • لا دولة مركزية خانقة، بل شبكة سيادية تمثيلية عادلة.
  • لا دولة مؤسسات خرساء، بل دولة ناطقة باسم المجتمع، مُصغية له، خاضعة لإرادته.
  • لا دولة شعارات، بل دولة خدمات، وعدالة، وكرامة. بهذا، لا تكون الدولة مجرد جهاز حكم، بل كائنًا أخلاقيًا واجتماعيًا يتجاوز الجغرافيا إلى المعنى.

ثانيًا: الهوية السورية من التمزيق إلى التكوين السيادي

 بعد أكثر من نصف قرن من محاولات إذابة التعدد داخل قالب واحد، أو تسليح الهويات لفرض الولاء، أصبح واضحًا أن الهوية السورية لا تُصنَع بالقهر، ولا تُمحى بالقانون، ولا تُفرض بالشعار. الهوية الوطنية ليست رديفًا للدولة القومية الأحادية، ولا نقيضًا للتعدد، بل هي حصيلة تعاقد سيادي حرّ، يعترف بالتنوع دون أن يتفكك، ويصوغ الانتماء دون أن يُقصي أحدًا. ولهذا، الدولة الجديدة تُبنى على:

  • هوية مواطنية جامعة، لا عربية مفروضة، ولا أقلوية مستبدة، ولا دينية إقصائية.
  • اعتراف دستوري صريح بتعدد الانتماءات الثقافية والدينية واللغوية داخل وحدة السيادة.
  • صياغة سردية وطنية جديدة لا تبدأ بالاستقلال بل تنطلق من نقد الانقسام، ولا تنتهي بسقوط النظام بل تبدأ بسقوط الصمت.
  • مشروع وطني جامع لا يقوم على “الوحدة المصطنعة” بل على التمثيل المتوازن والتكافؤ السياسي.

الهوية السورية الجديدة لا تُستعاد، بل تُؤسَّس من جديد، على أنقاض الإنكار، ومن خلال شراكة الوعي والكرامة. ولا تعني هذه الهوية صهر الجميع في قالب واحد، بل تمكين كل مكوّن: الكردي، والدرزي، والعلوي، والمسيحي، والآشوري، والسنّي، والإسماعيلي، من أن يكون فاعلًا لا مجرّد مؤطَّر.

ثالثًا: من دولة الخارج إلى دولة الداخل

 السيادة المجتمعية لم تكن الدولة السورية في العقود الماضية تُعبّر عن مجتمعها، بل كانت وكيلة للخارج، أمنية للداخل، منفصلة عن الناس، وغريبة عن آمالهم. ولهذا، فإن الدولة الجديدة لا تُستعاد بتغيير رأس السلطة، بل بإعادة مركز الثقل إلى الداخل، إلى الناس، إلى الشارع، إلى القرار الشعبي. وتتحقّق هذه السيادة المجتمعية عبر:

  • إعادة تعريف من يُنتج القرار: من المؤسسة الأمنية إلى المؤسسة التمثيلية المنتخبة.
  • ربط شرعية الدولة برضا المجتمع، لا باعتراف الخارج.
  • تحويل المجتمع من مُراقَب إلى شريك، من مهمَّش إلى صاحب قرار، من مغيَّب إلى ضامن للشرعية.
  • إعادة صياغة العلاقة بين المدينة والدولة، القرية والدولة، الهامش والدولة، على أساس التمثيل لا التبعية. هكذا تصبح الدولة، لأول مرة منذ عقود، جزءًا من المجتمع لا سيفًا فوقه.

رابعًا: الخطر الأكبر

 إعادة إنتاج الدولة القديمة بوجه جديد إن التهديد الأكبر لمشروع النهضة ليس فقط في عرقلة تنفيذه، بل في استغلاله من قبل قوى جديدة لإعادة إنتاج النموذج التسلّطي باسم “الوطن”، أو باسم “الإسلام”، أو باسم “الشرعية الثورية”. ولهذا، يُعاد التأكيد هنا على أن:

  • لا شرعية بلا مراجعة، ولا حكم بلا محاسبة، ولا تمثيل بلا تداول.
  • أن أي مشروع وطني لا يضع الإنسان في مركزه، سيسقط مهما بدا ناجحًا.
  • أن الهوية الوطنية ليست أداة حكم، بل حدّ للحكم.
  • أن الدولة لا تُبنى لتنتصر على المجتمع، بل لتحتضنه، وتحميه من كل استبداد، حتى ولو كان من داخلها.

خاتمة الفصل

 الدولة السورية الجديدة ليست “نظام حكم بديل”، بل إعادة صياغة المعنى العميق للسيادة، والانتماء، والهوية، والكرامة. هي فعل تأسيسي يبدأ من الإنسان، ويتوسّط المجتمع، ويُشرّع القانون، ويخضع للضمير، ويظل مفتوحًا على المراجعة والتجديد. فوق هذا الركام، لا نُعيد البناء فقط، بل نُعيد التعريف: من الدولة كأداة هيمنة، إلى الدولة كضامن للمعنى. ومن الهوية كقيد، إلى الهوية كحاضنة تعددية. ومن السلطة كصوت واحد، إلى السيادة كتنوع متماسك تحت سقف العدالة.