القسم الخامس عشر – الباب الأول
الفصل الثالث المعنى الأخلاقي للسيادة بعد الاستبداد
مقدمة الفصل
في سوريا ما بعد الاستبداد، لم يعد كافيًا أن نُعيد السيادة كسلطة على الأرض، بل صار واجبًا أن نُعيد بناء معناها ذاته. فالسيادة التي سُرقت من الشعب طوال عقود لم تكن مجرد أداة قهر،
بل تحوّلت إلى مفهوم زائف يُستخدم لتبرير الاستعباد الداخلي والتبعية الخارجية. قيل إنها “سيادة وطنية”، بينما كانت تُختزل في شخص الحاكم، أو جهاز الأمن، أو شبكة الولاء الطائفي والسياسي. وقيل إن معارضتها خيانة، بينما كانت هي الخيانة الكبرى للناس والتاريخ والكرامة.
هذا الفصل لا يُعيد فقط تعريف السيادة، بل يُخلّصها من إرثها السلطوي، ويُؤسّس لها من جديد كقيمة أخلاقية لا كسلاح سياسي. فنحن لا نريد سيادة بلا حرية، ولا قرارًا مستقلًا إذا كان مُنفصلًا عن الناس، ولا حكمًا وطنيًا إذا لم يكن إنسانيًا.
أولًا: من السيادة بوصفها سلطة إلى السيادة بوصفها التزامًا
في التجربة السورية، كانت السيادة تعني السيطرة: سيادة القرار، سيادة الحدود، سيادة الزعيم، سيادة الدولة على المواطن. لكن في مشروع النهضة، يُعاد بناء المفهوم من أساسه: فالسيادة لا تبدأ من الأعلى، بل من الأسفل. من الإنسان، من وعيه، من رضاه، من مشاركته في القرار، من احترام كرامته
ولذلك، السيادة لا تُعرَّف فقط بأنها حرية الدولة في علاقاتها الخارجية، بل بأنها قدرتها على أن تحكم ذاتها بأخلاق، وأن تُعبّر عن ناسها بإخلاص، وأن تكون خاضعة هي نفسها للمساءلة من داخل المجتمع. وهكذا، لا تعود السيادة سلاحًا لحماية السلطة، بل عقدًا أخلاقيًا يحمي المجتمع من السلطة إن انحرفت.
ثانيًا: السيادة كأخلاق، لا كامتياز
ليست السيادة في مشروع النهضة امتيازًا ممنوحًا للحاكم أو للنظام، بل واجب أخلاقي تُمارسه الدولة بالنيابة عن الشعب وتُحاسَب عليه. وهذا التحول في المفهوم يُغيّر جذريًا طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة: لم يعد “القرار السيادي” خارج النقاش، بل يُراجع أخلاقيًا: هل يخدم الصالح العام؟ هل يكرّس العدالة؟
لم تعد “الوطنية” تعني الطاعة، بل الانحياز للمجتمع ضد الظلم، ولو صدر عن الدولة نفسها. لم يعد معنى الاستقلال يقتصر على إخراج المحتل، بل يشمل إنهاء كل شكل من أشكال الإخضاع الداخلي باسم السيادة. فالسيادة بلا عدالة، تُحوّل الدولة إلى قيد. والسيادة بلا حرية، تُحوّل الشعب إلى أداة. والسيادة بلا أخلاق، تُحوّل الحكم إلى استبداد مقنّع.
ثالثًا: من السيادة المؤسسية إلى السيادة المجتمعية
ليست السيادة ملكًا للمؤسسات، بل للمجتمع الذي يُنتجها ويمنحها معناها. ولهذا، لا يُعاد بناء السيادة بمرسوم، بل عبر:
- تمكين المجتمع من مراقبة السلطة في كل مستوياتها.
- إتاحة النقد، الاعتراض، والاعتصام كحقوق سيادية لا كتهديدات أمنية.
- توزيع مراكز القرار، بحيث لا تبقى السيادة في يد واحدة، بل في توازن القوى بين مؤسسات تحترم القانون وتخضع له.
- ربط شرعية كل سياسة بسيادية الأثر: هل تُعيد للناس كرامتهم؟ هل تُنهي التهميش؟ هل تُعالج الاختلالات البنيوية؟ بهذا، تتحوّل السيادة إلى ممارسة حيّة، لا نص جامد، وتُصبح نتاجًا شعبيًا تراكميًا لا اختراعًا فوقيًا يُفرض من أعلى.
رابعًا: السيادة بعد الاستبداد – من الطاعة إلى المسؤولية
الاستبداد جعل السيادة رديفًا للطاعة، ومَن يخرج عن الحاكم يُتهم بخيانة الوطن. أما في مشروع النهضة، فالمعادلة تنقلب: الخيانة الحقيقية هي التفريط بالناس، لا بالزعيم. والخروج المبرَّر هو رفض القمع لا رفض السيادة. والولاء الأسمى هو للمعنى، لا للسلطة. ولذلك، فإن بناء السيادة بعد الاستبداد يمرّ عبر:
- إعادة الاعتبار للمسؤولية الفردية والجمعية في صناعة القرار.
- فتح المجال أمام النقد والمحاسبة والمراجعة كأدوات سيادية لا كتهديدات سياسية.
- تحرير فكرة الوطن من اختزالها في الحكم، وربطها بالمجتمع وحقوقه وهويته الجماعية.
خاتمة الفصل
في سوريا الجديدة، لا نريد أن نستبدل سيادة مُحتلة بسيادة مُزيّفة، ولا أن نُعيد إنتاج القهر تحت لافتة الاستقلال، ولا أن نمنح السلطة تفويضًا باسم الوطن. بل نريد سيادة تُمارس كأخلاق، تُحاسَب كأمانة، وتُجدد نفسها بالتفاعل والمراجعة والاعتراف. فالسيادة الحقيقية ليست ما تقوله الدولة عن نفسها، بل ما يقوله الناس عنها، وما يُنجَز باسمهم ولأجلهم وبموافقتهم. وإن لم تكن السيادة مرآة لكرامة الإنسان، فإنها تصبح قناعًا للاستبداد الجديد.