القسم الخامس عشر – الباب الثاني
الفصل السابع التأسيس الفعلي للسلم الأهلي والسيادة
مقدمة الفصل
لا يمكن بناء دولة في سوريا دون تأسيس فعلي للسلم الأهلي، ولا يمكن تحقيق السلم الأهلي دون سيادة حقيقية تُنهي منطق القهر، وتُحيي منطق التشارك. وبين السلم والسيادة علاقة عضوية: فلا سيادة دون مجتمع متماسك، ولا سلم حقيقي دون دولة تحمي الجميع بعدل، لا تنتصر لطرف ضد طرف.
وفي سوريا الخارجة من انفجار اجتماعي–سياسي طويل، لم يعد السلم شعارًا، بل شرطًا وجوديًا لبقاء الدولة، ولم تعد السيادة مجرد حدود أو أعلام، بل قدرة الدولة على ضمان الأمن دون إكراه، والعدل دون انتقام، والتمثيل دون إقصاء.
أولًا: من السكون القسري إلى السلم التشاركي
ما كان يُقدَّم في العقود الماضية على أنه “سلم أهلي” لم يكن أكثر من سكون قسري مفروض بالقمع الأمني والخوف من العقاب. لكنه كان سكونًا هشًّا انهار فور ما سُمِح للمجتمع بالكلام. فالسلم الحقيقي لا يأتي من إسكات الجميع، بل من إشراك الجميع على قاعدة الاعتراف، والعدالة، والإنصاف، والتمثيل.
ولهذا، لا يمكن الحديث عن سلم أهلي في سوريا الجديدة دون:
- الاعتراف المتبادل بين المكونات الاجتماعية والمناطقية والسياسية، لا إنكارها أو شيطنتها.
- تفكيك السرديات الانتصارية التي تمجّد القاتل وتُخون الضحية.
- إرساء عدالة انتقالية شاملة لا تكتفي بالترميم بل تُؤسس لذاكرة وطنية منصفة.
- تفعيل حوار وطني حقيقي يُنتج فهمًا مشتركًا لما حدث، وكيف نخرج منه معًا دون كراهية جديدة.
ثانيًا: متطلبات السلم الأهلي
على المستوى المؤسسي لا يُبنى السلم بالأمن فقط، بل بإصلاح معمّق للبنية المؤسساتية كي لا تبقى أدوات القهر قائمة وإن تغيّر رأس السلطة. ويتطلب ذلك:
- إصلاح المؤسسات الأمنية وإعادة بنائها على قاعدة مهنية خالية من التسييس والطائفية.
- ضمان تمثيل عادل لجميع المناطق في الهيئات السياسية والإدارية العليا.
- نزع الاحتكار المعرفي–الثقافي عبر إعادة صياغة التعليم والإعلام على قاعدة الوطنية الجامعة.
- تجريم خطاب الكراهية في القانون والممارسة، خاصة من قبل الشخصيات العامة والمؤسسات الدينية.
- تأسيس مجالس محلية تُعبّر عن مصالح كل فئة مجتمعية دون هيمنة فئوية أو حزبية.
فالسلم ليس غيابًا للسلاح فقط، بل حضور متوازن للمؤسسات العادلة.
ثالثًا: بسط السيادة على قاعدة التوافق لا الهيمنة
السيادة في مشروع النهضة لا تعني إعادة فرض السلطة المركزية بالقوة، بل إعادة إنتاجها من خلال شرعية تمثيلية–تعاقدية بين الدولة والمجتمع. ويتحقق ذلك عبر:
- إطلاق مسار تفاوض داخلي علني مع الفاعلين المحليين لضبط الأمن ودمج القوى المسلحة في أجهزة الدولة وفق معايير مهنية.
- فرض سلطة القانون بشكل موحد، لكن تدريجي، مع احترام الخصوصيات المناطقية والثقافية والدينية.
- منح الإدارات المحلية سلطات واسعة ضمن نظام لامركزي بنّاء يُقلّل من الحاجة للاحتكاك الأمني.
- تفعيل جهاز قضائي مستقل وناجز كمصدر سيادة قانونية بديلة عن منطق الردع الأمني.
رابعًا: معالجة بُنى الانقسام العميق
لا يمكن الحديث عن سلم حقيقي دون الاعتراف بعمق الانقسام الطائفي، والمناطقي، والطبقي، والسياسي. ولهذا، تتضمن خطة تأسيس السلم الأهلي:
- برامج مصالحة مجتمعية تُنظَّم بإشراف وطني مستقل، لا بصفقات تحت الطاولة.
- دعم مبادرات العدالة التصالحية والحق في التذكر والاعتراف، بدل النسيان القسري أو التصالح الزائف.
- إطلاق منتديات حوار دائمة في المدن والقرى بين مختلف الفئات، لا على شاشات التلفزيون بل في ساحات الحياة.
- توجيه الموارد بشكل عادل نحو المناطق المهمّشة والضحايا التاريخيين للتمييز والإقصاء.
فالسلم لا يأتي من تناسي الألم، بل من إدماجه في مشروع العدالة، وتحويله إلى وعي مشترك لا وقود للثأر.
خاتمة الفصل
السلم الأهلي ليس وضعًا أمنيًا، بل قرارٌ جماعي بأننا لن نُقتل مجددًا باسم الاختلاف، ولن نُقصى بسبب الهوية، ولن نُحتقر بسبب الرأي. والسيادة الحقيقية ليست قدرة الدولة على القمع، بل قدرتها على بناء وطن لا يحتاج للقمع أصلًا كي يبقى موحّدًا.
وبين السلم والسيادة طريق صعب، لكنه الطريق الوحيد الذي يُبقي سوريا حيّة، ممكنة، جديرة بأن تُولد من جديد كدولة لا تُهدد أبناءها، بل تحميهم من أنفسهم ومن ذاكرتهم ومن الخوف.