web analytics

الدين في المجال العام

من التوظيف السلطوي إلى التوازن المدني

 مقدمة تحليلية

لم يكن الدين في سوريا مجرّد عقيدة روحية، بل كان دومًا أحد أبرز مكونات الهوية، ومجالًا للصراع والشرعنة والهيمنة.

وفي ظل غياب الدولة المدنية، واحتكار السياسة، غرق الدين في بحر من التوظيف السلطوي، والتلاعب الأمني، والاستثمار الطائفي.

فأُفرغ من بعده الأخلاقي، وحُوّل إلى أداة بيد السلطة من جهة، وإلى منصة للتطرّف أو التمرّد من جهة أخرى.

فالدين في سوريا:

  • إما جرى تدجينه وتحويله إلى وظيفة في خدمة الاستبداد،
  • أو جرى تغوله وتحويله إلى سلطة بديلة تسعى إلى فرض نفسها بالقوة.
  • أو تم شيطنته وتهميشه كليًا، بوصفه خطرًا على الدولة الحديثة.

لكن الحقيقة الأعمق أن الدين لم يكن هو المشكلة، بل طريقة حضوره، وموقعه في بنية الدولة والمجتمع.

ومن هنا، فإن مشروع النهضة لا يدعو إلى إقصاء الدين، ولا إلى استغلاله، بل إلى تحريره من التوظيف، وإعادته إلى مكانه الطبيعي كمصدر قيمي، لا كسلطة حاكمة.

  أولًا: الدين في ظل الدولة الاستبدادية – وظيفة أمنية لا مرجعية أخلاقية

  1. احتواء المؤسسة الدينية الرسمية

  تحوّلت وزارة الأوقاف والمؤسسات الشرعية إلى أذرع للسلطة، تُنتج فتاوى الولاء، وتشرعن الظلم.
  فُرضت الخُطب، وضُبط الخطاب الديني بما يخدم تأليه الحاكم، وتجريم المعارضة.

  1. قمع الدين الحر، وتهميش الرموز المستقلة
     تم سجن العلماء المستقلين، أو نفيهم، أو اغتيالهم رمزيًا.
      حورب كل فكر ديني نقدي أو غير منسجم مع الخطاب الرسمي.
  2. تطييف الفضاء العام واختزال الدين في الطائفة
     فُرضت قراءة طائفية للدين، خاصة في مؤسسات الجيش والأمن والتعليم.
      صارت الطائفة هي مرجعية التدين، لا العقيدة أو القيم أو الاجتهاد.

  ثانيًا: توظيف الدين في الحرب – بين التطرّف والردّ عليه

  1. صعود الخطاب الديني الجهادي كرد فعل على الاستبداد
     مع تهميش الدين المعتدل، وفراغ الحقل القيمي، صعدت الحركات الراديكالية كبديل عن الدولة.
      وتم تجييش الشباب باسم الدين، لا لبناء الوطن، بل لـ”تحريره” وفق تصور عقائدي مغلق.
  2. الردّ الطائفي المقابل باسم حماية الأقليات
     تجييش مذهبي في مناطق النظام، وتسليح الهويات الفرعية بغطاء ديني.
      تصوير الصراع كصراع وجودي ديني، لا كحراك سياسي وطني.
  3. شيطنة الدين ككل من قبل النخب الحداثية
     ردود الفعل المعاكسة ذهبت إلى أقصى اليسار، فطالبت بإقصاء الدين من الفضاء العام كليًا.
      هذا التطرّف المضاد لم يُنتج توازنًا، بل زاد في تعميق الانقسام.

  ثالثًا: نحو توازن مدني – الدين في دولة النهضة

  1. الفصل بين الدولة والدين، لا بين الدولة والقيم
     الدولة لا تُنتج الدين، ولا تستخدمه، لكنها تحمي حرية التدين، وتضمن المساواة.
      تُبنى القوانين على أساس المصلحة العامة والعقلانية، لا على التفسير العقائدي.
  2. استقلال المؤسسة الدينية عن السلطة التنفيذية
     إعادة هيكلة الأوقاف، والمجالس الشرعية، كمؤسسات مستقلة تمثّل المجتمع لا النظام.
      منع استغلال الدين في الحملات السياسية أو التعبئة الفئوية.
  3. حرية الاعتقاد والتعبير الديني ضمن سقف القانون
     لكل مواطن حق التدين أو عدمه، دون فرض أو قسر أو وصاية.
      يُمنع التحريض والكراهية تحت عباءة الدين، وتُحترم التعددية الدينية في التعليم والإعلام والسياسة.
  4. الاعتراف بالدين كمصدر قيمي لا تشريعي مباشر
     يُستفاد من الإرث الديني في صياغة منظومة الأخلاق العامة، لا في فرض أحكامه كقوانين للدولة.

  رابعًا: ضمانات دستورية وثقافية للحياد الديني

  • نص دستوري واضح على حياد الدولة تجاه الأديان والمذاهب.
  • حظر استخدام الدين لتحقيق مكاسب انتخابية أو حزبية.
  • إدماج قيم التسامح والتنوع والعدالة في المناهج التربوية، بدل التعليم المذهبي أو التبشير الإيديولوجي.
  • فتح المجال للإنتاج الثقافي والفني الذي يناقش الدين دون خوف من التكفير أو المنع.

الخاتمة:

الدين ليس عدوًا للدولة، ولا بديلًا عنها.
بل هو مكوّن روحي وقيمي، لا ينبغي أن يُستثمر سياسيًا، ولا أن يُقصى قسريًا.

في سوريا الجديدة، لا سلطان فوق القانون، ولا فتوى فوق الإرادة الشعبية، ولا طائفة فوق الوطن.
فدولة النهضة لا تُعادِي الدين، ولا تُؤلّهُه، بل تُنزله موضعه الصحيح:
مرآة للأخلاق، لا أداة للهيمنة.