الدولة الوطنية
كضمانة لإنهاء الطائفية والفعل الجمعي
المقدمة:
حين يصبح المجتمع أسير الانتماءات الأولية،
وحين تتحول الهوية إلى قيد، والانتماء إلى سلاح،
وحين تصبح الطائفة أو العشيرة أو القرية أعلى من الوطن،
لا يعود هناك منقذ حقيقي إلا الدولة الوطنية.
الدولة، هنا، ليست مجرد جهاز حكم أو إدارة،
ولا مجرد تنظيم للمصالح،
بل تصبح الحارس الوحيد للمواطنة،
والحامي الأوحد لحرية الأفراد من تسلط الجماعات.
في هذا الفصل،
سنحاول رسم صورة الدولة الوطنية،
كما ينبغي أن تكون لكي تنهي الفعل الجمعي القسري،
وتحطم الطائفية بوصفها مشروعًا سياسيًا،
وتبني مكانهما مجتمع الأفراد الأحرار،
الديمقراطيين، المتساوين أمام القانون.
أولًا: مفهوم الدولة الوطنية في الفكر السياسي الحديث
1. الدولة بوصفها عقدًا اجتماعيًا
الدولة ليست إلهًا منزّهًا، ولا قوة قهر طبيعية.
الدولة هي نتيجة إرادة حرة لأفراد قرروا التنازل طوعًا عن بعض حرياتهم الطبيعية،
مقابل حماية حرياتهم الأساسية داخل مجتمع مدني منظم.
2. مكونات الدولة الوطنية الحديثة
عقد اجتماعي نديّ يساوي بين جميع الأفراد.
سيادة القانون كمبدأ أعلى من كل ولاء آخر.
مؤسسات عامة محايدة، لا تمثل طائفة ولا عشيرة ولا منطقة.
تعريف الهوية الوطنية بوصفها مشروعًا مدنيًا، لا ميراثًا بيولوجيًا أو طائفيًا.
ثانيًا: لماذا الدولة الوطنية شرط لكسر الطائفية؟
1. لأن الدولة وحدها تضمن المواطنة الفردية
في ظل الجماعات الأولية، تكون حقوق الفرد مشروطة بانتمائه.
أما في الدولة الوطنية، فحقه بالكرامة والحماية لا علاقة له بهويته الموروثة.
2. لأن الدولة الوطنية تفصل بين الخاص والعام
تحترم الدولة الوطنية الهويات الثقافية والدينية،
لكنها ترفض تحويلها إلى معايير للحقوق السياسية أو الاجتماعية.
3. لأن الدولة الوطنية تحتكر العنف المشروع
تمنع ظهور الميليشيات والعصابات الطائفية.
تجعل القانون وحده المرجع للفصل بين الناس.
4. لأن الدولة الوطنية تُعرّف نفسها عبر المواطن، لا عبر الطائفة
لا تقبل أن تكون سلطة لفئة ضد فئة.
ولا تتعامل مع المجتمع بوصفه طوائف أو قبائل متناحرة، بل كجماعة مواطنين متساوين.
ثالثًا: الشروط الفكرية والسياسية لبناء دولة وطنية سورية حديثة
1. التحرر الكامل من منطق العصبية
يجب أن يتأسس الوعي العام على مبدأ أن الانتماء السياسي يجب أن يكون للوطن، لا للطائفة.
أن يكون مقياس الشرعية هو خدمة الصالح العام، لا حماية الهويات المغلقة.
2. بناء المؤسسات على قاعدة الكفاءة والحياد
تعيين الموظفين والقضاة والضباط بناءً على الجدارة، لا الانتماء الطائفي أو العرقي.
تحصين أجهزة الدولة (الجيش، القضاء، الأمن، الإدارة) من أي تسييس طائفي.
3. تأسيس عقد اجتماعي جديد
ينص صراحة على رفض الطائفية السياسية.
يؤكد أن الحقوق ترتبط بالمواطنة لا بالانتماء الإثني أو الديني.
يضع قيودًا دستورية قوية تمنع إعادة إنتاج النظام الطائفي تحت أي غطاء.
4. تأمين العدالة الانتقالية
محاسبة الجرائم الفردية بعدالة.
حماية الجماعات من الانتقام الجمعي أو الإقصاء السياسي.
تفكيك الميليشيات وتحويل أفرادها إلى مواطنين أفراد أمام القانون.
رابعًا: ملامح الدولة الوطنية السورية المنشودة
1. دستور مدني ديمقراطي
لا ديني، ولا طائفي، ولا قبلي.
يحمي حرية الدين والاعتقاد، لكنه يفصل الدين عن مؤسسات الدولة.
2. نظام سياسي تعددي
يسمح بتعدد الأحزاب والتيارات،
بشرط أن تكون البرامج السياسية مدنية، لا هوياتية.
3. لامركزية متدرجة عقلانية
توزيع متوازن للسلطة بين المركز والأقاليم،
لكن ضمن إطار وطني جامع يضمن وحدة الدولة.
4. إعلام وثقافة وطنية
تبني خطابًا وطنيًا مدنيًا جامعًا.
تحارب ثقافة الكراهية والفرز الطائفي.
5. قضاء مستقل
يحمي الحقوق الفردية.
يقف بوجه أي محاولة لإحياء أشكال الطائفية السياسية أو الاجتماعية.
خامسًا: تحديات بناء الدولة الوطنية بعد الحرب
1. ضعف الثقة بين المكونات المجتمعية
لا يكفي سن الدساتير، بل لا بد من إعادة بناء الثقة عبر مؤسسات شفافة ونزيهة.
2. وجود قوى الأمر الواقع
كثير من القوى العسكرية المحلية ترى في الطائفة أو العشيرة مصدر شرعيتها.
تفكيك هذا الوضع يتطلب صبرًا، وعدالة، وتحقيقًا تدريجيًا لسلطة الدولة.
3. التدخلات الخارجية
بعض القوى الإقليمية والدولية تدفع باتجاه إبقاء سوريا ساحة طوائف ومصالح.
حماية القرار الوطني شرطٌ لاستكمال بناء الدولة الوطنية.
4. المقاومة الثقافية الداخلية
الطائفية ليست سلاحًا فقط، بل نمط تفكير أيضًا.
ستحتاج الدولة إلى معركة طويلة لإعادة بناء ثقافة المواطنة داخل المجتمع.
الخاتمة:
إن الدولة الوطنية ليست مجرد حلم طوباوي،
بل هي استحقاق وجودي لمجتمع خرج محطّمًا من أتون الطائفية والعنف الجمعي.
لا يمكن لسوريا أن تتجاوز جراحها،
ولا أن تدخل زمن النهضة الحقيقية،
إلا عبر تأسيس دولة وطنية مدنية حديثة،
تضع الكرامة الإنسانية والحرية الفردية والمساواة أمام القانون فوق كل اعتبار آخر.
إن مشروع النهضة السورية،
لا يكتمل بهندسة المؤسسات فقط،
ولا بإصلاح الاقتصاد فقط،
ولا بصياغة الدساتير فقط،
بل يكتمل فقط عندما تنتصر دولة المواطنة،
على دولة الطائفة والعشيرة والغلبة.
بهذا الانتصار،
تولد سوريا جديدة،
قادرة على أن تكون وطنًا لا طائفة،
ومجتمعًا لا ميليشيا،
ودولة حرة لأناس أحرار.