حول مرسومي تشكيل هيئة العدالة الانتقالية وهيئة المفقودين
بصراحة، وأنا أطلع على المرسومين رقم 19 و20 لعام 2025، المتعلقين بتشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” و”الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، لم أستطع تجاوز حجم المغالطات البنيوية والقانونية فيهما، ولا الشعور بأننا أمام محاولة شكلية لإغلاق ملفات حساسة، بدل فتحها بطريقة جادة ومسؤولة تؤسس للعدالة فعليا، أو أمام قرارات شكلية تأخذ شكل تنفيذ متطلبات مرحلة مطلوب فيها استرضاء المانحين أو المشرعنين، وتنفيذا صوريا لقائمة المطالب الدولية والشعبية، فمن يقرأ المرسومين سيرى كلاما جميلا عن كشف الحقيقة وجبر الضرر، لكن بمجرد التعمق قليلا، يتضح أن هذه الصياغات لا تستند إلى أي بناء قانوني أو مؤسسي سليم.
بعيدا عن التوصيف، دعوني أشارككم بوضوح كل الإشكاليات التي وجدتها في المرسومين، وبطريقة مباشرة:
أولا، كل شيء بدأ من فوق. رئيس الجمهورية المكلّف أصدر المرسومين بصفته المنفردة، دون أي مشاركة من أهالي الضحايا، أو منظمات حقوقية مستقلة، أو مجلس شرعي منتخب. نحن لا نعيش في ظل دستور دائم، بل في ظرف انتقالي هش، وهذا تحديدا ما يفرض أن تُبنى مثل هذه الهيئات على قاعدة تشاركية، مش مفتوحة على قرار فردي مهما كانت النوايا.
ثانيا، في مرسوم هيئة العدالة الانتقالية، وُضع مصطلح “تُعنى بكشف الحقيقة” بدلا من “تُكلّف” أو “تُناط بها مهمة”. وهذا ليس مجرد تفصيل لغوي، بل فارق جوهري. التعبير المستخدم لا يمنح الهيئة أي قوة تنفيذية أو صلاحية قانونية. وكأن المطلوب من الهيئة أن “تتابع الموضوع” لا أن تقوم بمحاسبة فعلية.
ثالثا، تم حصر الانتهاكات التي يُفترض بالهيئة التحقيق فيها بعبارة “التي تسبب بها النظام البائد”. وهذا لا يمثل فقط انتقائية مرفوضة أخلاقيا وقانونيا، بل يعني فعليا أن كل من شارك أو ساهم أو سهل أو موّل أو حرّض على ارتكاب الجرائم بحق الشعب السوري، خارج إطار المساءلة. والمقصود هنا ليس فقط الأطراف الأخرى، بل جبهة النصرة، هيئة تحرير الشام، الفصائل التي توحدت معها، وكل من شارك في الجريمة التي تم ارتكابها بحق الشعب السوري لسنوات طويلة. هذه الصيغة تعني ضمنيا عفوا سياسيا مسبقا يغطي كل المرحلة السابقة، ويحصر الجريمة في طرف واحد، بما يخالف أبسط معايير العدالة.
رابعا، الشخصيات التي تم تعيينها، سواء في رئاسة هيئة المفقودين (محمد رضى جلخي) أو هيئة العدالة (عبد الباسط عبد اللطيف)، تم اختيارها دون أي إعلان أو معايير أو مشاورات. جلخي حصل على شهادته من جامعة غير معترف بها دوليا، وكانت تحت سلطة هيئة تحرير الشام سابقا، وهو الآن مسؤول عن ملف المفقودين في دولة ما بعد الحرب. هذا بحد ذاته يكفي للتشكيك في جدية المقاربة.
خامسا، ما في أي تحديد للبنية الداخلية للهيئتين. كم عدد الأعضاء؟ ما صلاحياتهم؟ كيف تتم الرقابة عليهم؟ هل هناك تقارير دورية؟ هل هناك جهاز رقابي مستقل؟ لا يوجد شيء. كل شيء مُسند إلى رئيس الهيئة الذي يضع “النظام الداخلي” لاحقا، في حلقة مغلقة من السلطة على السلطة.
سادسا، يمكن أن يُقال الآن إن المرسوم صدر اليوم، وإن التفاصيل ستأتي لاحقًا. لكن هذه الحجة مردودة. تشكيل هيئة عدالة انتقالية لا يجب أن يبدأ من السلطة التنفيذية أصلاً، بل من صميم السلطة القضائية، وبالتوافق معها، لأنها هي المعنية بمفهوم العدالة وأدواتها. ما يحصل هنا أن السلطة المتهمة بالهيمنة والقرار الفردي، تعيّن هيئة للتحقيق في انتهاكات سلطة سابقة، وكأننا أمام عدالة سياسية لا عدالة قانونية.
سابعا، وربما الأخطر، هو تغييب الناس عن هذا المسار كله. لا ضحايا، لا ذووهم، لا منظمات مجتمع مدني، لا محامون مستقلون، لا حتى ممثلون عن المناطق المتضررة. وكأن هذه الملفات تُدار في غرفة مغلقة بين من يملكون السلطة ومن يختارونهم بأنفسهم.
والآن، بدل الاكتفاء بالنقد، من المهم أن نوضح كيف تُبنى مثل هذه الهيئات في الظروف الانتقالية؟ باختصار:
تُشكّل بموجب إعلان تأسيسي مؤقت يُقرّ من مجلس انتقالي أو هيئة تمثيلية وطنية مؤقتة، حتى لو كانت رمزية أو ذات طابع تشاوري.
تُبنى على أساس مشاركة واسعة من ممثلي الضحايا، ونقابات المحامين، والمجتمع المدني، وحقوقيين مستقلين.
يتم اختيار أعضائها عبر ترشيح معلن، ومعايير واضحة للنزاهة والكفاءة، وليس بالتكليف المباشر.
يُفترض أن تتعاون منذ تأسيسها مع هيئات دولية ذات مصداقية لضمان الشفافية، سواء في التوثيق أو التقييم أو المحاسبة.
ويجب أن تتمتع بصلاحية واضحة، وموازنة شفافة، وآليات رقابة ومساءلة، ولا تكون تابعة مباشرة للسلطة التنفيذية.
أنا لا أكتب هذا الرأي اعتراضا على فكرة تشكيل الهيئات، بل على طريقتها. لأننا إذا أردنا فعلا أن نؤسس لسوريا جديدة، فهذه الملفات ليست ملفات يمكن المرور عليها وكانها مجرد تفاصيل يمكن تجاهلها، بل هي اختبارات سيادة، وكرامة، وذاكرة، وحقوق. والعدالة التي تبدأ بانتقائية، وبغياب الشفافية، وبتكليفات فردية، ليست عدالة. بل تمهيد لشرعنة أمر واقع آخر، تحت عنوان جديد.
شادي عادل الخش
يجب عليك تسجيل الدخول لإرسال مراجعة.