web analytics
القسم الأول

الفصل السادس من القومية إلى السلطوية

سقوط الخطاب وانتصار الأجهزة

مدخل تحليلي:

في لحظات ما بعد الاستعمار، ظهرت القومية كأمل جماعي،
كحلمٍ بتجاوز الانقسام، وبناء أمة عربية واحدة،
تحمل كرامتها، وتتحرر من النفوذ الأجنبي،
وتصنع مشروعًا نهضويًا جامعًا يتجاوز الطوائف، والحدود المصطنعة، والولاءات الضيقة.

لكن في سوريا، كما في كثير من التجارب المشابهة،
لم يُكتب لهذا المشروع أن يتجذر، ولا أن يتطوّر،
بل جرى تفريغه من مضمونه التحرري، وتحويله إلى خطاب وظيفي تبريري، يُخدم السلطة بدل أن يحدّها.

وهكذا، انتقلت القومية من فكرة تسند الإنسان، إلى شعارٍ يُخنقه باسم الأمة التي لم تُبنَ أصلًا.

وبدل أن تكون القومية فكرة تعبّر عن شعب،
تحوّلت إلى شعار يبرّر حكم حزب،
وبدل أن تكون أداة تحرر، أصبحت قناعًا للاستبداد.

أولًا: من تحرير الإنسان إلى تسليمه – انحراف الخطاب القومي

الفكر القومي، كما طُرح في بداياته، كان مشروعًا فلسفيًا إنسانيًا:

  • يؤمن بأن الإنسان العربي يستحق الحرية والكرامة،
  • يرفض التجزئة،
  • ويسعى لخلق وعي جمعي جديد.

لكن في الممارسة السياسية،
خاصة بعد انقلاب البعث عام 1963، ثم صعود حافظ الأسد عام 1970،
بدأت الفكرة تتحوّل تدريجيًا من منظومة فكرية تحررية إلى أداة تعبئة سلطوية.

  • “الوحدة” لم تعُد مسارًا ديمقراطيًا، بل قمعًا للتعدد.
  • “الحرية” لم تعُد غاية سياسية، بل كلمة فارغة في شعار الحزب.
  • “الاشتراكية” لم تعُد عدالة اجتماعية، بل تأميمًا قسريًا وانتقائيًا يخدم الطبقة الحاكمة.

وسرعان ما استُبدلت غاية الإنسان بسيادة الخطاب، وتحولت الشعارات من وعد بالمستقبل إلى وسيلة لإخفاء الحاضر.وبذلك، لم تسقط القومية كمفهوم فقط، بل كفلسفة بناء إنساني.

ثانيًا: القومية كشرعية بديلة عن التمثيل

حين تضعف الشرعية السياسية القائمة على الانتخابات،
وحين يغيب العقد الاجتماعي،
تبحث السلطة عن شرعية بديلة.
وفي سوريا، كانت الشرعية القومية هي الغطاء الجاهز.

  • الحاكم لا يُحاسَب لأنه “قائد المشروع القومي”،
  • والمؤسسات لا تُسائل لأنها تنفّذ مهمة تاريخية،
  • وكل معارض يُتَّهم بأنه “خائن للقضية العربية”.

وهكذا، جرى تحويل الخطاب القومي إلى حصانة استبدادية،
تُمنَح بمقدار الطاعة، وتُسحَب بمقدار الاختلاف.

فتحوّلت “الأمة” من كيان حي يُمثَّل، إلى ذريعة للقمع باسم قضية لا صوت لها.
وتحوّل ما كان حلمًا بالتكامل العربي، إلى وسيلة لعزل الداخل، وتخوين الخارج، وتجميد الحياة السياسية.

ثالثًا: الأجهزة بدل الفكرة – من الحزب إلى المخابرات

كان من المفترض أن يكون حزب البعث حزبًا جماهيريًا فكريًا،
لكن مع صعود الأسد إلى السلطة،
تم تذويب الحزب داخل الدولة، ثم تذويب الدولة داخل الأجهزة.

  • اختُزل الحزب في شخص القائد،
  • وتحوّل الخطاب القومي إلى شعارات تُرفع على جدران المدارس،
  • بينما يُدار القرار من مكاتب ضباط المخابرات.

وهكذا، لم يكن الحزب أداة تعبير عن الناس، بل واجهة لصمتهم المفروض.

وما كان يُفترض أن يكون سلطة الأفكار،
أصبح سلطة الملفات،
وما كان يُفترض أن يوحّد الأمة،
أصبح يُستخدم لتبرير تمزيق المجتمع.

وهكذا، انتصرت الأجهزة على الخطاب،
وانتقلنا من الدولة الأيديولوجية إلى الدولة الأمنية المغلقة.

رابعًا: الخطر العكسي – كيف ساهم الخطاب القومي في إعادة إنتاج الانقسام؟

حين تُفرَض الهوية من فوق،
وحين تُختَزل الأمة في حزب،
وحين يُقصى التنوع لصالح التجانس الزائف،
يبدأ المجتمع في الانغلاق،
ويُستبدَل الشعور بالوحدة بالشعور بالخوف،
ويُعاد الاعتبار للانتماءات الدنيا (الدين، الطائفة، العشيرة) كرد فعل دفاعي.

وهذا ما حدث.

  • الأقليات رأت في الخطاب القومي تهديدًا لخصوصياتها،
  • الكرد رأوا فيه أداة إقصاء،
  • الريف لم يشعر أنه ممثَّل،
  • الفقراء لم يلمسوا عدالة،
  • والمثقفون أدركوا أنهم أمام سلطة تعبئة لا مشروع وطني.

فبدل أن تُنتج القومية شعورًا بالانتماء، خلقت شعورًا بالاغتراب، وبدل أن تعيد تشكيل الجماعة، عمّقت تفككها.

وبهذا، أدّى سقوط الخطاب إلى تعميق الانقسام الذي جاء أصلاً لتجاوزه.

خلاصة الفصل:

القومية في سوريا لم تُهزم لأن الفكرة كانت ضعيفة،
بل لأنها اختُطفت، وشُوّهت، ووُظّفت في غير موضعها.

وحين يتحوّل المشروع الفكري إلى أداة سيطرة،
وحين تُستبدَل الأمة بالحزب،
والفكرة بالقائد،
والتنوع بالاستيعاب،
تسقط القومية… وتسقط معها إمكانية بناء وطن جامع.

ولهذا، فإن مشروع النهضة الجديد لا يبني على الهويات المغلقة، ولا على الخطابات الجاهزة،
بل على الاعتراف بالتعدد، وعلى ربط الانتماء بالمواطنة،
لا بالعرق، ولا بالدم، ولا بالشعار.

فالوطن لا يُبنى بخطاب يُقصي، بل بعقد يُنصف،
ولا ينهض بشعارات تعبئة، بل بمؤسسات تمثيل،
وحين تُصبح المواطنة هي القومية الجديدة، نكون على طريق نهضة لا تستنسخ الماضي، بل تتجاوزه.