web analytics
القسم الأول

الفصل السابع سياسات التفقير والتدمير البنيوي للاقتصاد والمجتمع

كيف يُنتَج العجز ليُدار الخضوع؟

مدخل فلسفي:

الفقر ليس دائمًا نتاج عجز اقتصادي،
بل قد يكون أداة سياسية لترويض المجتمع،
وسيلة لتقييد الفرد بحاجاته الأولى كي لا يرفع رأسه نحو حاجاته الكبرى:
الحرية، الكرامة، التمثيل، العدالة.

وفي سوريا، لم يكن التفقير مجرّد نتيجة لضعف الموارد أو سوء الإدارة،
بل نتاج هندسة سلطوية ممنهجة، امتدت على عقود،
سعت إلى إنتاج مجتمع هش، قابل للضبط، فاقد للقدرة على المطالبة،
مُنهك بما يكفي ليقبل الحد الأدنى… أو يهرب.

في هذا الفصل، لا نحاكم أرقام الناتج المحلي،
بل نفكك العقل السلطوي الذي تعامل مع الاقتصاد كأداة للإخضاع، لا كرافعة للنهضة،
ونحلل كيف ارتبط الانهيار الاقتصادي بتآكل العقد الاجتماعي، وبتحطيم البنية التحتية للذات السورية.

أولًا: من الاقتصاد السياسي إلى اقتصاد الولاء

منذ السبعينيات، ومع دخول حكم الأسد الأب طور “الدولة الأمنية الشاملة”،
بدأ الاقتصاد يتحول تدريجيًا من كيان عام يُدير الموارد الوطنية لصالح المجتمع،
إلى أداة تُستخدم لشراء الولاء السياسي وضبط مراكز النفوذ.

  • الدولة صارت الموزّع الأكبر للوظائف،
  • الدعم الحكومي صار وسيلة للتمييز لا للمساواة،
  • الريع الاقتصادي أُعيد توزيعه عبر شبكات الولاء، لا وفق معايير الحاجة أو العدالة،
  • وتم خلق طبقة “كمبرادورية” مرتبطة بالأجهزة الأمنية، تحتكر السوق، وتُدير رأس المال بالتنسيق مع النظام.

وهكذا، تم تسييس الاقتصاد بشكل كامل،
وأصبح البقاء في السوق مرهونًا بولائك، لا بإبداعك،
فانهارت المبادرة، وتراجعت الكفاءة، واختُزلت التنمية في “التمكين السلطوي”.

وبذلك، لم يُنتَج الاقتصاد بوصفه طاقة مجتمعية، بل بوصفه شبكة ضبط وتحكّم.

ثانيًا: تخريب الريف وتدمير الاقتصاد المنتج

كان من الممكن أن يكون الريف السوري قوة اقتصادية ضخمة:

  • خزّان زراعي حيوي،
  • مصدر استقرار غذائي،
  • ورئة اقتصادية للفقراء والمهمّشين.

لكن منذ الثمانينيات، بدأ النظام بتطبيق سياسات قمعية اقتصادية تجاه الريف، تمثّلت في:

  • احتكار التسويق الزراعي لصالح الدولة، بأسعار بخسة.
  • حرمان الفلاحين من الأدوات الإنتاجية الحديثة.
  • إضعاف البنية التحتية في المناطق الريفية بشكل مقصود.
  • وتهميش الريف في توزيع المشاريع التنموية والتعليمية.

ولم يكن هذا عجزًا إداريًا، بل تخريبًا ممنهجًا لفئة رآها النظام “خطرًا ديمغرافيًا واجتماعيًا،
خاصة حين بدأ الريف يعاني من الفقر والتهميش، ويقترب من حالة الغليان الصامت.

تم استخدام التفقير الريفي كجدار صامت يحول دون تحول هذه الكتلة إلى فاعل سياسي.
وبذلك، تحوّلت المناطق الريفية إلى قنابل اجتماعية مؤجلة،
انفجرت لاحقًا مع اشتداد الظلم، لا بالصدفة، بل كنتيجة.

ثالثًا: تعقيم الطبقة الوسطى – ضرب العمود الفقري للمجتمع

الطبقة الوسطى هي العمود الذي يقوم عليه المجتمع:

  • هي التي تنتج الثقافة،
  • تُحرّك السوق،
  • تُغذّي الدولة بالكفاءات،
  • وتشكّل الحاجز بين الفقر والعنف.

لكن في سوريا، تم تجويف هذه الطبقة، لا بالضرب، بل بالتجفيف البطيء:

  • تآكلت مداخيل المهنيين والمعلمين والأطباء والمهندسين.
  • ضُرب القطاع الخاص النزيه تحت ذرائع اشتراكية، ثم أُعيد تمكين فئة محسوبة على النظام.
  • هاجر كثير من الكفاءات بسبب القمع أو الإهمال أو الفساد.

وهكذا، تآكلت الطبقة الوسطى،
وتحوّل المجتمع إلى ثنائية خانقة:
فقراء منهكون… وأثرياء متطفلون.

رابعًا: اقتصاد الخوف – كيف يُدار العوز كأداة حكم؟

النظام السوري لم يستخدم السلاح فقط،
بل استخدم الراتب، الخبز، الدواء، الكهرباء، الدعم
كوسائل ابتزاز سياسي.

  • إن خضعتَ، ضمنت قوتك.
  • وإن عارضتَ، أصبحت في مهب العدم.
  • الدولة تحوّلت إلى مانحٍ مشروط، لا ضامنٍ عام.

وهذا الاقتصاد القائم على “الطاعة مقابل البقاء”
أنتج عقلًا مُستعبَدًا، لا مواطنًا:

  • موظف الدولة يخاف على راتبه،
  • التاجر يخشى على امتيازاته،
  • المواطن الفقير يبحث عن بطاقة تموينية لا عن كرامة،
  • والخوف من الجوع أصبح أقوى من الرغبة في الحرية.

وهكذا، تحوّل الاقتصاد من فضاء إنتاج، إلى أداة ضبط اجتماعي.

فالعوز ليس مجرد نتيجة، بل منظومة حكم، ومجال سلطة، وآلية خنق مزدوجة للجسد والعقل.

خامسًا: تخريب البنية التحتية للمجتمع

لا تنهار الدول فقط حين ينهار اقتصادها،
بل حين تُدمَّر بنيتها الاجتماعية–المعرفية–القيمية،
وهذا ما فعله النظام ببطء، عبر:

  • تهميش التعليم الجاد واستبداله بالدعاية.
  • تحويل الجامعات إلى قاعات تبجيل لا تفكير.
  • ضرب منظومات القيم المجتمعية عبر الفساد المُمَنهج.
  • تحويل حاجات الناس اليومية إلى أزمات مستمرة: الماء، الكهرباء، الوقود، المعيشة.
  • جعل البقاء اليومي مرادفًا للتذلل المستمر.

وهكذا، أُعيد إنتاج الإنسان في قالب العجز، لا القدرة،
وفي شروط الضيق، لا المبادرة،
وفي قوالب الخوف، لا الفعل.

وتم إغلاق كل نوافذ الترقّي الاجتماعي الحقيقي،
فإما أن تُطيع… أو تُقصى،
وإما أن تندمج في آلة الولاء… أو تُحذف من الخارطة الاقتصادية والرمزية.

خلاصة الفصل:

سياسات التفقير في سوريا لم تكن مجرد فشل في التخطيط،
بل كانت جزءًا من نظام السيطرة،
حيث يُحاصَر الإنسان في حاجاته الدنيا،
ويُخضع مقابل بقائه،
ويُعاقب بالفقر، ويُكافأ بالقرب من السلطة.

ولهذا، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن ينهض من داخل البنية الاقتصادية السابقة،
بل يجب أن يُفككها، ويعيد بناء مفهوم الاقتصاد بوصفه رافعة للإنسان، لا سيفًا عليه،
وأن يُعيد تعريف الإنتاج، لا كسلعة، بل ككرامة.

ولا كمورد للهيمنة، بل كأفق للتحرر.