web analytics
القسم الأول

الفصل الثامن عشر الديمغرافيا السورية

من التوازن المجتمعي إلى التفكيك السكاني

مدخل فلسفي–مجتمعي:

في المجتمعات المستقرة، تُشكّل الديمغرافيا خلفية غير مرئية للسياسات،
أما في المجتمعات التي تحكمها أنظمة سلطوية،
فإن الديمغرافيا تتحوّل إلى أداة في يد السلطة،
أداة تستخدمها للهيمنة،
للمعاقبة،
ولإعادة رسم الخريطة البشرية وفق مصالحها الأمنية والطائفية.

فالسلطة لم تكتفِ بتهميش فئات،

بل أعادت رسم ملامح الجغرافيا البشرية بما يخدم هيمنة أقلية حاكمة.

وفي سوريا، لم يكن التوزيع السكاني مجرّد نتيجة طبيعية للتاريخ والجغرافيا،
بل كان على الدوام ميدانًا للتدخل، والتلاعب، والإخضاع.

أولًا: التوازن السكاني قبل البعث – فسيفساء غنية رغم التهميش

قبل استلام البعث للسلطة،
كانت سوريا تشهد تنوعًا سكانيًا لافتًا:

  • أغلبيات وأقليات دينية، مذهبية، قومية، ومناطقية،
  • توزّع جغرافي متمايز (جبلي، بدوي، زراعي، مدني)،
  • انخراط متفاوت في الدولة الناشئة،
  • تفاوت في فرص التنمية والتعليم.

لكن رغم هذه التفاوتات،
لم تكن هناك سياسات سكانية مُمأسسة للتلاعب بالتركيبة،
بل كان التعايش الهش هو السائد،
إلى أن بدأ المشروع البعثي باستخدام السجل السكاني كوسيلة حكم، لا مجرد أداة إحصاء.

ثانيًا: البعث والتلاعب الديمغرافي – القومية فوق التعدد، والإيديولوجيا فوق الواقع

  • اعتمد البعث منذ بداياته على خطاب “القومية الواحدة”،
    ما جعله ينكر التعدد السكاني عمليًا، ويخشى من بروز الهويات غير المنصهرة.

فكانت النتيجة:

  1. تهميش الأكراد: عبر مشروع “الحزام العربي” شمال شرق سوريا،
    وتجريد الآلاف منهم من الجنسية السورية.
  2. تهميش الدروز والمسيحيين سياسيًا، رغم استخدامهم رمزيًا.
  3. إهمال مناطق كاملة تنمويًا (الجزيرة، حوران، جبل العرب، بادية دير الزور).
  4. تهجير سكان المدن القديمة بفعل السياسات العمرانية العشوائية، ما دمّر البنية المجتمعية للمدن.

وهكذا، تحوّل الخطاب الرسمي إلى آلة صهر قسري، لا عقد تعددي.

وتحوّلت الدولة من ضامن للتعدد إلى أداة قسرية لفرض التجانس المصطنع.

ثالثًا: السلطة الأسدية وتفكيك البنية السكانية كأداة سيطرة

مع حافظ الأسد، ثم ابنه بشار،
تم الانتقال من “الإهمال الديمغرافي” إلى الهندسة الديمغرافية السياسية“.

  1. تم توسيع سيطرة طائفية–مناطقية على مفاصل الجيش والأمن.
  2. تم تعزيز الكثافة السكانية الموالية حول المدن الكبرى (دمشق، حمص، حلب) كـ”أحزمة أمنية بشرية”.
  3. تُركت مناطق كاملة دون بنية تحتية لتفريغها لاحقًا أو لإنتاج طرد غير مباشر.
  4. ظهرت النزعة الأمنية في توزيع الموارد (سكن، مياه، طاقة، توظيف…) بما يُعزز الولاء.

وبذلك، تحوّلت الخرائط السكانية إلى خطوط أمنية تُرسم بقرارات السلطة لا بنبض السكان.

رابعًا: التهجير القسري خلال الحرب – من السلاح إلى السُكان

خلال سنوات الحرب،
انتقل النظام السوري من الهندسة الصامتة إلى الهندسة القسرية:

  • تهجير ممنهج في حمص، الزبداني، داريا، القلمون، الغوطة، درعا، حلب.
  • تفريغ مناطقي على أساس الولاء السياسي والطائفي.
  • برامج إعادة إسكان طائفي مؤدلجة مثل مشروع “ماروتا سيتي” في دمشق، و”باسيليا سيتي
    حيث أُزيلت أحياء بكاملها، ليس بهدف الإعمار… بل لتفريغها ديمغرافيًا.
  • تجنيس مجموعات أجنبية موالية (مقاتلون شيعة، أفغان، إيرانيون…) ضمن مخطط بعيد المدى، ما يجعل من هذا التغيير أخطر من الحرب ذاتها، لأنه يُعيد تعريف من يملك ‘الحق في البقاء’.
  • التغيير في السجل العقاري والسيطرة على الممتلكات المهجورة.

باختصار، أصبحت الديمغرافيا سلاحًا،
يُستخدم لتكريس السيطرة،
وتدمير التوازن السكاني التاريخي.

خامسًا: التهجير الخارجي والشتات – تفكك سوريا على مستوى الجغرافيا الإنسانية

  • أكثر من 13 مليون سوري اضطروا للنزوح أو اللجوء،
  • مئات الآلاف لا يملكون وثائق ملكية أو شخصية،
  • خطر فقدان الهوية المدنية والوطنية الجماعية يزداد مع كل عام،
  • الأطفال السوريون في الشتات يُنشؤون في بيئات لغوية وثقافية متباعدة،
  • شبكات العائلة والتاريخ تُفكّك، والروابط الجغرافية تنهار.

وهكذا، لم تدمَّر المدن فقط،
بل دُمِّر النسيج البشري الجامع،
وتحوّلت سوريا إلى خارطة بلا أهل… أو بأهل غير مرئيين.

فاللاجئ لم يُهجّر فقط من بيته، بل من خريطته، ومن مفهومه للانتماء.

سادسًا: غياب سياسة سكانية وطنية – من الإدارة إلى الفوضى والتهميش

رغم الكوارث،
لم يُطرح أي تصور وطني حقيقي لإدارة المسألة الديمغرافية بعد الحرب.

  • لا استراتيجية لعودة اللاجئين.
  • لا ضمانات لأصحاب الأملاك.
  • لا سياسة لإعادة توزيع الموارد.
  • لا رؤية لمسألة التعدد الديني–القومي–المناطقي.

بل إن النظام الحالي يُكرّس التغيير، لا يُصحّحه.
بل يُعيد استخدام التهجير كأداة تفاوض سياسي وأمني، لا كأزمة يجب معالجتها.

خاتمة الفصل: الديمغرافيا ليست أرقامًا… بل هي مستقبل الوجود السوري

في مشروع النهضة، لا بد من استعادة العدالة السكانية بوصفها:

  • ركيزة للاستقرار،
  • شرطًا للوحدة الوطنية،
  • وضمانة لعودة الوطن إلى أبنائه.

ولا يمكن بناء سوريا جديدة فوق جراح التهجير،
ولا يمكن للسيادة أن تُستعاد مع وجود خريطة سكانية مُفصّلة على مقاس السلطة أو المحتل.

الديمغرافيا ليست محايدة… بل هي معركة،
ومَن يخسرها، يخسر الحق في الجغرافيا والذاكرة والعودة.

فلا نهضة دون إنصاف سكّاني، ولا سيادة دون عودة الذاكرة إلى الجغرافيا التي وُلدت منها.”