web analytics
القسم الأول

الفصل الحادي والعشرون العدالة في سوريا

من القانون إلى القهر باسم القانون

مدخل فلسفي–تشريحي:

القانون، في جوهره،
ليس مجموعة نصوص جامدة،
بل هو الضامن الأخلاقي والسياسي لعلاقة متوازنة بين الإنسان والدولة.
وهو الحاجز الذي يمنع السلطة من التحول إلى غريزة،
والمجتمع من الانزلاق إلى شريعة الغاب.

لكن حين يُختَطَف القانون،
ويُستبدَل بالقوة،
وحين يُصبح نصه خاضعًا لمنطق الغلبة لا للعدالة،
فإن المجتمع لا يفقد حقوقه فقط،
بل يفقد معناه ككيان قانوني وسياسي.

وفي سوريا، كانت الكارثة مضاعفة:
فقد خُنق القانون… باسم القانون.
وتم القمع… بقرارات صادرة عن “محاكم”.
وسُحِق المواطن… عبر أجهزة تحمل صفة “العدالة”.
وهكذا، تم تأميم القانون لخدمة الاستبداد،
وتحويله إلى قفص حديدي، لا مظلة للحرية.

أولًا: تشويه المفهوم – من سيادة القانون إلى قانون السيادة

في الدولة الحديثة،
تُبنى المشروعية على مبدأ سيادة القانون،
الذي يعني أن الجميع، بما فيهم الحاكم، يخضعون لنص قانوني عادل.
لكن في سوريا، تم تحويل هذا المبدأ إلى نقيضه،
فصار “القانون” هو إرادة الحاكم،
وصارت السيادة تعني التحرر من كل رقابة ومساءلة.

وهكذا، أصبحت القوانين تصدر لحماية السلطة لا المجتمع،
ويُشرَّع ما يخدم السيطرة،
ويُعطل ما يتيح التحرر.

ثانيًا: قانون الطوارئ – حين يصبح الاستثناء هو القاعدة

منذ عام 1963 وحتى 2011،
عاشت سوريا تحت حالة طوارئ معلنة رسميًا،
بقرار مجلس قيادة الثورة، دون انقطاع.

ما يعني عمليًا أن:

  • الحريات الدستورية كانت مُعطّلة.
  • الاعتقال دون مذكرة قانونية صار ممارسة يومية.
  • التفتيش والمداهمات لا تحتاج لأمر قضائي.
  • التنقل والتجمع والتعبير… خاضعة لموافقة الأمن.
  • الطعن والاعتراض بلا جدوى، لأن القضاء معطَّل في مواجهة “أوامر الطوارئ”.

أي أن القانون أُلغي فعليًا لمدة نصف قرن،
وصارت الطوارئ هي القاعدة، والقانون هو الاستثناء.

وهكذا، نشأت أجيال كاملة لا تعرف من العدالة إلا وجهها القاسي،
ولا من الدولة إلا بوابة السجن.

ثالثًا: المحاكم الاستثنائية – تشريع القمع بغطاء قضائي

تحت مظلة “الطوارئ،
أسّس النظام منظومة محاكم لا تخضع للقانون الطبيعي، بل للقوة.

  1. محكمة أمن الدولة العليا (1971–2011):
    • لا تستند إلى قانون العقوبات المدني.
    • لا تتيح حق الدفاع الكامل.
    • أحكامها نهائية، غير قابلة للاستئناف أو النقض.
    • القضاة فيها يُعيّنون من قبل السلطة مباشرة.
    • كثير من أحكامها أُصدرت على أساس تقارير أمنية شفوية.
  1. المحاكم العسكرية للمدنيين:
    • صارت وسيلة لمعاقبة المعارضين السياسيين،
    • بمحاكمات سرية، دون ضمانات،
    • وعقوبات تصل إلى الإعدام لمجرد “نشر منشور” أو “تحريض”.
  1. محكمة الإرهاب (2012–الآن):
    • ورثت نفس المنهجية، مع اسم مختلف.
    • تُحاكم الناشطين بتهم فضفاضة كـ”إضعاف الشعور القومي” أو “الانتماء إلى منظمة محظورة”.
    • تُدار سياسيًا، وتُستخدم لترهيب أي صوت خارج الخط الرسمي.

النتيجة:
لم يكن المواطن السوري خاضعًا للقانون،
بل خاضعًا لآلة قمع قانونية المظهر، قسرية الجوهر.
وكانت العدالة تُمارس ضده، لا باسمه.

رابعًا: التعيين السياسي وهيمنة الأمن – القضاء بلا استقلال

لم يكن تعيين القضاة يتم من قبل مجلس قضائي مستقل،
بل من وزارة العدل الخاضعة للسلطة التنفيذية.
كان القاضي يُحاسب أمنيًا،
وينقل أو يُفصل بناءً على توصية أمنية لا مسلكية.
المحاكم كانت مراقبة من ضباط فروع الأمن،
وأحكام كثيرة تُعدّل شفهيًا قبل صدورها، أو تُمنع من النطق بها.
نقابة المحامين فقدت استقلالها،
وأصبح دورها أقرب إلى جهاز إداري تابع للدولة،
لا جهة مهنية تدافع عن الحقوق.

خامسًا: العدالة في زمن الحرب – من التشويه إلى الانهيار الكامل

مع انطلاق الثورة، انفجر الوضع القضائي بالكامل:

  • القضاء الرسمي: انهار تمامًا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
  • القضاء البديل: ظهر في مناطق المعارضة، لكنه غالبًا ما افتقر إلى التدريب والكفاءة والمعايير الموحدة.
  • القضاء الجهادي: ظهر مع الجماعات الراديكالية، وطبّق “حدودًا” دون محاكمة، وأسّس محاكم شرعية تفتقر لأي عدالة.
  • المحاكم الدولية: بقيت بعيدة، عاجزة عن الملاحقة الحقيقية حتى اللحظة.

وهكذا، دخل السوري في منطقة رمادية: لا قانون ولا قضاء ولا حق… بل شريعة الغلبة، أو قانون البنادق.

سادسًا: العدالة الانتقالية الغائبة – طمس الجرائم لا كشفها

رغم الكوارث،
لم تُطرح أي آلية حقيقية للعدالة الانتقالية،
لا من النظام،
ولا حتى من بعض قوى المعارضة المسيطرة.

  • لا محاكمات عادلة للمتورطين في الانتهاكات.
  • لا أرشفة شفافة للضحايا والمغيبين.
  • لا هيئة مستقلة لحفظ الأدلة.
  • لا ميثاق وطني يُقرّ بالحق في المحاسبة.

بل طُرحت خطابات “العفو والمصالحة” كمحاولة لإعادة طمس الجريمة،
وإعادة تدوير الجلاد،
وتأجيل الحق… باسم “الاستقرار”.

سابعًا: العدالة في مشروع النهضة – إعادة التأسيس لا الإصلاح

في مشروع النهضة السورية،
نرفض مبدأ “إصلاح الأجهزة” فقط،
ونطالب بإعادة تأسيس منظومة عدالة وطنية–مدنية–سيادية، قائمة على:

  1. فصل القضاء عن السلطة التنفيذية بالكامل.
  2. حلّ كل المحاكم الاستثنائية، ومراجعة كل أحكامها.
  3. تشكيل مجلس قضائي مستقل منتخب.
  4. تفعيل العدالة الانتقالية عبر لجان تحقيق وطنية ودولية.
  5. إعادة الاعتبار للمحاماة كأداة دفاع عن الشعب.
  6. بناء منظومة تشريعية جديدة لا تُكرّس القوة، بل تحمي الضعفاء.

خاتمة الفصل: لا دولة تُبنى فوق أنقاض العدالة

لقد كانت العدالة في سوريا أكثر من مفقودة،
كانت مشوّهة، مقلوبة، مستعمَلة كسوط،
وصارت الجريمة تُرتكب باسم القانون،
وتُشرعن باسم “المصلحة العليا”.

ولهذا،
لا يمكن للكرامة أن تعود،
ولا للسيادة أن تُبنى،
ولا للمجتمع أن يُشفى،
ما لم نُعد للعدالة معناها، ومكانتها،
ونؤسس لأول مرة في تاريخ سوريا:
عدالة تُمثّل الإنسان… لا تستدعيه مقيدًا إلى قوس محكمة الأمن.