web analytics
القسم الثاني – الباب الأول

الفصل الثالث الدولة في مشروع النهضة

من الاحتكار السلطوي إلى العقد السيادي

مدخل فلسفي–سياسي:

ليست الدولة في جوهرها مبنىً ومؤسسات،
ولا مجرد دستور وسلطة تنفيذية،
بل هي فكرة، وعقد، وتجسيد للكرامة الجماعية.

ولهذا، لا تكون الدولة مشروعًا جاهزًا يُفرض،
بل بناءً اجتماعيًا يتطوّر مع وعي الناس بأنفسهم،
ويتأسس على التفاهم، لا القهر،
وعلى الشراكة، لا التبعية،
وعلى السيادة الجمعية، لا الاحتكار الفردي.

في سوريا، لم تكن الدولة عقدًا،
بل كانت سلطة فوقية،
و”كيانًا أمنيًا–إداريًا” يُدير الناس لا يُمثّلهم،
ويُخضع المجتمع، لا يُنظّمه،
ويُقدّس الحاكم، لا القانون.

لذلك، فإن أي مشروع نهضة حقيقي لا يمكن أن يُبنى على أنقاض الدولة القديمة فقط،
بل يجب أن يُعيد تعريف الدولة ذاتها، من الجذر.

أولًا: تشريح الدولة السورية – من الفكرة إلى الأداة

عند الاستقلال، كان هناك حلم ببناء “الدولة الوطنية”:
دولة المواطنة، القانون، والمؤسسات.

لكن ذلك الحلم تحطّم سريعًا بسبب:

  • الانقلابات العسكرية،
  • غياب العقد الدستوري المستقر،
  • هشاشة الأحزاب،
  • وتدخل العسكر في السياسة.

ثم جاء البعث، ومعه المركزية القاتلة،
حيث تم تحويل الدولة إلى:

  • كيان فوق المجتمع،
  • مسيطر عليه حزبيًا،
  • مدار أمنيًا،
  • محكوم بشخص لا بمؤسسة.

وفي عهد الأسد الأب، ثم الابن،
وصلنا إلى “الدولة–السلطة–الشخص”،
حيث تماهى الوطن بالحزب، والحزب بالقائد، والقائد بالدولة،
حتى صار الانتماء لها طاعة لا شراكة،
وصارت المواطنة امتيازًا، لا حقًا.

ثانيًا: الدولة كاحتكار – آليات السيطرة وتشويه الوظيفة

السلطة السورية لم تلغِ الدولة،
بل احتكرتها وأعادت تعريفها.

فصارت:

  • وزارة الداخلية = جهاز ضبط اجتماعي.
  • وزارة التربية = أداة للولاء العقائدي.
  • وزارة الأوقاف = جهاز ديني تحت الطلب.
  • الإعلام = تكرار أعمى لصوت الحاكم.
  • القضاء = ذراع طيّعة لتنفيذ السلطة، لا العدل.

وهكذا، تحولت الدولة من راعٍ للمجتمع،
إلى سيّدٍ عليه، وسجّان له.

وما تبقّى من هياكل الدولة،
أُفرِغ من الروح،
وعاش على الفساد،
وتحوّل من “وظيفة عمومية” إلى “غنيمة خاصة”.

ثالثًا: سقوط الدولة لا يعني غيابها – كيف نُعيد بناء الدولة دون إعادة الاستبداد؟

اليوم، الدولة المركزية القديمة انهارت،
لكن البديل لم يُولد.
وما بين السقوط والفراغ،
تتربّص مشاريع كثيرة:

  • سلطات محلية تحاول وراثة الدولة دون تمثيل حقيقي،
  • قوى أمر واقع تُعيد إنتاج القمع باسم “الثورة” أو “الشرعية”،
  • تدخلات إقليمية ترسم خرائط للدولة المقبلة وفق مصالحها.

ولهذا، فإن مشروع النهضة لا يعني فقط “بناء الدولة”،
بل بناءها على عقد سيادي جامع،
ينطلق من إرادة الشعب،
ويعيد تعريف كل المفاهيم: السيادة، التمثيل، القانون، المشاركة. 

رابعًا: الدولة في فلسفة النهضة – وظائف جديدة لمفهوم قديم

نقترح هنا إعادة تعريف الدولة ضمن المشروع النهضوي السوري، على الشكل التالي:

الدولة هي الأداة المجتمعية العليا لتنظيم المصالح، وضمان الكرامة، وتحقيق العدالة، من خلال عقد سيادي بين المواطنين، لا منّة من حاكم، ولا وصاية من حزب، ولا ولاية باسم الدين.

ومن هنا، تتغيّر وظائف الدولة لتصبح:

  • من سلطة إلى خدمة،
  • من قهر إلى حماية،
  • من مركزية إلى شراكة،
  • من شعار إلى فعل.

خامسًا: مبادئ الدولة النهضوية – على ماذا تُبنى؟

  1. العقد السيادي: الدولة لا تُفرض، بل تُبنى على أساس عقد اجتماعي نابع من الإرادة الحرة للمجتمع.
  2. التمثيل الحقيقي: لا دولة بدون آليات تمثيل صادقة، عادلة، متوازنة مناطقيًا وديموغرافيًا.
  3. فصل السلطات: التشريع، التنفيذ، والقضاء – ثلاث وظائف لا يمكن دمجها أو التحكم بها من مركز واحد.
  4. استقلال المؤسسة العسكرية والأمنية عن القرار السياسي–الشخصي.
  5. حيادية الدولة تجاه الدين والطوائف، مع ضمان حرية المعتقد وكرامة الانتماء.
  6. اللامركزية الإدارية والتنموية: تفكيك المركزية السلطوية لمصلحة توزيع فعلي للصلاحيات والموارد.
  7. مؤسسات رقابية مستقلة، تمنع عودة الفساد، وتضمن المساءلة.

خاتمة الفصل: من الدولة–السلطة إلى الدولة–العقد

النهضة لا تُبنى على أنقاض الدولة القديمة فحسب،
بل على تفكيك نموذجها، وفهم كيف فشلت، ولماذا.

والدولة في مشروعنا ليست جهازًا حياديًا،
بل فضاءً أخلاقيًا–قانونيًا،
يُنتج المعنى،
ويحمي الكرامة،
ويُعيد الثقة بين الناس وبين الوطن.

فقط حين تعود الدولة إلى حجمها الطبيعي،
وتخرج من عقلية السيطرة،
وتُبنى على الشراكة،
يمكن أن تكون رافعةً للنهضة… لا قبرًا لها.