القسم الثاني – الباب الأول
الفصل الرابع المجتمع في مشروع النهضة
من التفكك إلى التعاقد الحر
مدخل فلسفي–اجتماعي:
إن كل دولة تستمد مشروعيتها من المجتمع الذي تمثله،
وكل نهضة تبدأ من إحياء المجتمع، لا من ترقيع المؤسسات.
لكن في سوريا، لم يكن المجتمع فقط مهمّشًا،
بل تم تفكيكه عمدًا، عزله، تفتيته، مراقبته، تجريده من أدواته، ثم اتهامه بالفشل.
ومع كل جولة قمع، أو حرب، أو أزمة،
لم يكن المجتمع يُسند… بل يُدان.
وحين حاول أن ينهض بنفسه، تم اختراقه، تقسيمه، تجويعه، ثم قمعه باسم “الوطن”.
ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن يُبنى فوق هذا التفكك،
بل يجب أن يبدأ بإعادة بناء المجتمع من الجذر، على قاعدة التعاقد الحر، لا الترويض السلطوي.
أولًا: تفكيك المجتمع السوري – أدوات السيطرة وتخريب الوعي الجماعي
ما الذي فعله النظام بالمجتمع؟
ببساطة: فكّكه، ثم صمّمه كما يشاء.
- الطائفة: حُوّلت من مكوّن اجتماعي إلى أداة ولاء أو خوف.
- العشيرة: من نسيج تقليدي إلى جهاز تعبئة لصالح السلطة.
- النقابة: من ممثّل مهني إلى ذراع حزبي.
- الحيّ الشعبي: من مجال تفاعل إلى مجال مراقبة.
- المدينة والريف: من شريكين في التنمية إلى متنافسَين على الفتات.
- المرأة: من نصف المجتمع إلى أداة دعائية أو كائن مقموع بلا تمكين حقيقي.
وتم كسر أي محاولة لتكوين وعي جمعي مستقل،
عبر:
- محو التعليم النقدي،
- تدمير الحياة السياسية،
- شيطنة المجتمع المدني،
- وسحق النقاش العام.
ثانيًا: المجتمع بوصفه الضحية والفاعل في آن
المجتمع السوري لم يكن فقط ضحية،
بل كان – في كثير من الأحيان – مشاركًا بالصمت، أو القبول، أو المواربة.
وهذا لا يعني اتهامه،
بل يعني أن أي مشروع نهضة يجب أن يبدأ من الاعتراف بذلك،
لا لتوزيع الذنب، بل لتحرير الإرادة.
- المجتمع خاف،
- وانسحب،
- وارتضى بالبقاء على الهامش،
- أو التماهي مع القوي،
- أو الاستسلام للصورة النمطية: “لا شيء يتغيّر”.
وهذا ما يجعل نهضتنا تبدأ من تفكيك هذا الوعي المشوّه،
وتأسيس وعي جديد قائم على الفعل، لا الخوف،
الكرامة، لا النجاة،
الشراكة، لا الغلبة.
ثالثًا: الثورة كمؤشر لا كمُخلّص – اختراق الصمت وليس ولادة جديدة بعد
الثورة السورية لم تكن فقط صراعًا سياسيًا،
بل كانت أيضًا حركة مجتمعية تكشف عن الانقسام والتفتّت، وتُعيد السؤال عن “من نحن؟“
- ظهرت الفجوات بين الريف والمدينة،
- بين الطوائف،
- بين الداخل والخارج،
- بين النخبة والناس،
- بين من يرى سوريا وطنًا، ومن يراها غنيمة.
لكن رغم كل ذلك، كانت هناك لحظة نادرة:
عاد فيها المجتمع ليتكلّم بصوته، خارج لافتة الحزب، والمنبر الديني، والقناة الرسمية.
وهذه اللحظة، رغم كل ما تلاها، لا تزال بذرةً يجب أن نحميها.
رابعًا: إعادة تعريف المجتمع – التعاقد بدل التماثل
في مشروع النهضة، لا نريد مجتمعًا موحّدًا بالقوة،
ولا “شعبًا واحدًا” بصوت واحد،
بل نريد مجتمعًا متنوّعًا، حرًا، حيًّا، يعرف اختلافاته ويتعامل معها بوعي.
ولهذا، نقترح إعادة تعريف المجتمع السوري كالتالي:
هو جماعة تاريخية–جغرافية–إنسانية متعددة، يجمعها التعاقد الحر على العيش المشترك، والاعتراف المتبادل، والكرامة الفردية، والمشاركة المتساوية في السيادة.
لا حاجة إلى تماثل،
بل إلى إرادة تعايش، ونظام تمثيل، وحماية قانون.
خامسًا: كيف نعيد بناء المجتمع؟ – خارطة طريق للتماسك الاجتماعي
- تحرير الوعي: من الخوف، من الصورة النمطية، ومن العجز المكتسب.
- إعادة الاعتبار للفرد: لا كرقم، بل كصاحب إرادة، وصوت، ومسؤولية.
- تمكين الفئات المُهمّشة (نساء، شباب، أقليات، لاجئين…): لا فقط عبر الخطاب، بل بالسياسات.
- إحياء الفضاء المدني الحرّ: كأداة لبناء الحوار والتمثيل والمبادرة.
- إصلاح التعليم والإعلام: لتكوين جيل يُفكّر، لا يُكرّر.
- بناء منظومة حماية اجتماعية: تعالج الفقر، وتضمن الكرامة، وتُعيد الثقة بين الناس والدولة.
- صياغة عقد اجتماعي واضح: يحفظ الحقوق والواجبات على قاعدة المساواة لا الامتياز.
خاتمة الفصل: المجتمع كحامل للنهضة لا موضوع لها
النهضة ليست مشروعة فوق المجتمع،
ولا بديلة عنه،
بل صنيعة هذا المجتمع حين يستعيد ذاته،
ويُدرك مَن هو،
ويقرّر أن يتجاوز الخوف،
وأن يُنتج مستقبله، لا أن يُصاغ له.
وحين تُعاد السيادة للمجتمع،
وتُحمى التعددية،
ويُبنى التعاقد على قاعدة الوعي،
تولد النهضة من جديد… من الناس، وللناس.