web analytics
القسم الثاني – الباب الثاني

الفصل الحادي عشر السياسات العامة كأداة للنهضة

من الإنفاق السلطوي إلى الاستثمار الاجتماعي

مدخل فلسفي–تنموي

ليست السياسات العامة مجرد إجراءات حكومية أو قرارات إدارية تُتخذ ضمن مكاتب الدولة،
بل هي تجسيد يومي لعقد اجتماعي حي،
ومرجعية أخلاقية تقيس من خلالها الدولة صدقيّتها تجاه مواطنيها.
فحين تُصاغ السياسات بمعزل عن الإنسان، تصبح عبئًا عليه،
وحين تُدار بعقلية سلطوية، تتحول إلى أدوات ضبط لا أدوات تنمية.
وفي سوريا، لم تكن السياسات العامة يومًا تجسيدًا للعدالة الاجتماعية أو الكرامة الإنسانية،
بل كانت مرآة لتشوّه بنية السلطة، وترسيخ نظام الولاء، وتكريس المركزية، وتهميش المواطن.

أولًا: تشريح السياسات العامة في النظام السابق – من الرؤية إلى الأداة

من خلال ما تم تفكيكه في القسم الأول من المشروع،
يمكن رسم ملامح النظام السياسي–الاقتصادي الذي أفرز سياسات عامة مشوّهة، تمثّلت في:

  • سياسات ريعية قائمة على شراء الولاءات لا بناء القدرات.
  • إنفاق عشوائي يُغدَق على الأمن والدعاية، ويُقصى التعليم والصحة.
  • موازنات مشروطة خارجيًا، بلا استقلال حقيقي ولا شفافية.
  • إقصاء المجتمعات المحلية من تحديد أولوياتها، وتهميش صوت الفئات الضعيفة.
  • خطط شكلية لا تنموية، تمتلئ بالأرقام وتفرغ من المعنى، لا تسعى إلى قياس الأثر ولا محاسبة الفشل.

السياسات في النظام القديم لم تكن أداة للتنمية،
بل وسيلة لإعادة إنتاج السيطرة وتوسيع فجوة الفقر واللامساواة.

ثانيًا: فلسفة السياسات العامة في مشروع النهضة – الإنسان أولًا

في فلسفة النهضة، لا تُصاغ السياسات من فوق،
ولا تُفرَض كقوالب جاهزة،
بل تُنتج من أسفل، من حاجات الناس، ومن واقعهم، ومن صوتهم المباشر.
ولذلك، فإننا نعيد تعريف السياسات العامة بوصفها:

أداة للتعبير عن الإرادة العامة، تُصاغ عبر تشاركية حقيقية، وتُقيم بميزان الأثر العادل، وتُعدّ الترجمة الإجرائية للكرامة الإنسانية.”

في هذا السياق، السياسات ليست مجرّد موازنات وتوزيع صلاحيات،
بل هي الترجمة الفعلية لفلسفة الدولة،
والمؤشر الحقيقي على مدى التزامها بالعدالة، والتنمية، والحقوق.

ثالثًا: من الإنفاق إلى الاستثمار – مبدأ التمكين لا الرعاية

نقطة التحوّل الأساسية في السياسات العامة هي في الانتقال من منطق:

  • الرعاية التبعية: حيث المواطن متلقٍ دائم للخدمات.

إلى منطق:

  • التمكين السيادي: حيث المواطن شريك ومبادر ومساهم في رسم السياسات.

وهذا يتطلب:

  1. إعادة توجيه الإنفاق العام نحو ما يُحدث الأثر الأكبر في حياة الناس:
    التعليم، الصحة، البنية التحتية، الحماية الاجتماعية، والبحث العلمي.
  2. التخلص من ثقافة “الهِبة” الحكومية واستبدالها بثقافة “الشراكة”.
  3. إدماج المجتمع المحلي في التخطيط، والمتابعة، والتقييم.
  4. قياس الأثر الاجتماعي للسياسات، لا الاكتفاء بإعلان تنفيذها.

رابعًا: وظائف السياسات العامة في الدولة النهضوية

تتغيّر وظيفة السياسات العامة في مشروع النهضة لتُصبح:

  • أداة لإعادة توزيع الموارد بعدالة.
  • مسارًا لتحقيق الاندماج المجتمعي.
  • وسيلة لتقليص الفجوات المناطقية والطبقية.
  • جسرًا بين الدولة والمجتمع لا جدارًا يفصل بينهما.
  • رافعة لمشروع وطني جامع، لا مجرد جدول أعمال حكومي موسمي.

خامسًا: كيف نصوغ سياسات عامة نهضوية؟ – المنهج، والآليات، والمعايير

  1. منهج تشاركي شامل: إشراك المواطنين، النقابات، المجتمع المدني، والسلطات المحلية.
  2. شفافية مطلقة في إعداد السياسات وتنفيذها: نشر الموازنات، فتح النقاش العام، محاسبة المسؤولين.
  3. مأسسة تقييم الأثر: كل سياسة يجب أن تُقاس بنتائجها لا بنيّتها فقط.
  4. مؤشرات واضحة للعدالة الاجتماعية: لا سياسة عامة دون سؤال: من يستفيد؟ ومن يتضرر؟
  5. رؤية استراتيجية متكاملة: السياسات ليست منفصلة، بل يجب أن تُبنى في منظومة متناسقة ومترابطة.

خاتمة الفصل: السياسات العامة مرآة الفلسفة السياسية للدولة

في النهاية، لا معنى لأي مشروع نهضة إذا كانت أدواته لا تعبّر عن قيمه،
ولا يمكن أن نتحدث عن دولة جديدة، إذا بقيت سياساتها تنتمي إلى منطق قديم.
السياسة العامة هي التعبير الإجرائي عن الأخلاق السياسية،
وهي المؤشر الحقيقي على كرامة المواطن في يومه العادي، لا فقط في لحظات الاحتفال.
ولذلك، فإن فلسفة السياسات العامة في مشروعنا النهضوي
ليست مجرد مسألة فنية،
بل هي مسألة فلسفية،
تجيب على سؤال الوجود الجماعي:
كيف نعيش سويًا… بعدل؟ وكيف نبني مصيرًا… بلا إقصاء؟