القسم الثاني – الباب الثاني
الفصل الثاني عشر الاقتصاد في مشروع النهضة
من الريع السلطوي إلى الإنتاج السيادي
مدخل فلسفي–اقتصادي
الاقتصاد ليس مجرد أرقام، ولا سياسات مالية أو نقدية،
بل هو البنية العميقة التي تعكس طبيعة السلطة، وتحدّد شكل العلاقات الاجتماعية،
وتترجم، في جوهرها، فلسفة الدولة في التعامل مع الإنسان:
هل هو مُنتِج، أم تابع؟
هل يُمكَّن، أم يُستثمَر؟
هل يُرى كقيمة فاعلة، أم كمجرد رقم في سوق الولاء؟
وفي سوريا، لم يكن الاقتصاد يوماً أداة تحرر أو إنتاج،
بل تحوّل تدريجياً إلى اقتصاد ريعي–سلطوي،
يقوم على الزبائنية، وعلى بيع النفوذ، وعلى استيراد الاستقرار،
في مقابل تفكيك المنظومة الإنتاجية، وإفقار المجتمع، وخلق فئات طفيلية متسلطة.
أولًا: تشريح بنية الاقتصاد السوري – من الإنتاج إلى التبعية
منذ الاستقلال، تاه الاقتصاد السوري بين:
- الخطاب الاشتراكي الفارغ الذي رفع شعارات العدالة دون أن يؤسس للتمكين،
- والتحوّل النيوليبرالي المتوحش في عهد الأسد الابن، الذي رسّخ اقتصاد النخبة على حساب المجتمع.
وهكذا، تحوّل الاقتصاد إلى:
- ريع نفطي وزراعي هش لا يستند إلى بنية صناعية حقيقية.
- اعتماد مفرط على المساعدات الخارجية والقروض السياسية.
- مراكز قوى مالية مرتبطة بالأجهزة الأمنية والعائلية.
- هياكل فساد رسمية تقنّن السرقة وتُجَرّم الفقر.
- تهريب منهجي للثروات الوطنية، وتفكيك متعمّد لقطاعات الإنتاج.
كل ذلك لم يكن نتيجة سوء إدارة فقط،
بل كان نتاجًا لنظام يرى في الاقتصاد أداة حكم، لا مشروع حياة.
ثانيًا: فلسفة الاقتصاد النهضوي – الإنسان في قلب المعادلة
في مشروع النهضة، لا نرى الاقتصاد مسألة تقنية فحسب،
بل نراه مرآة فلسفية لطبيعة التعاقد بين الإنسان والدولة.
الاقتصاد في الدولة النهضوية هو:
“نظام اجتماعي–إنتاجي، يعيد توزيع الثروة بعدالة، ويُمكّن الإنسان من امتلاك قراره، ويحرر المجتمع من التبعية الخارجية والداخلية.”
ولهذا، فإن نقطة البدء في فلسفة الاقتصاد النهضوي هي الإنسان المنتج، لا السوق فقط.
والهدف ليس مجرد تحقيق النمو، بل تحقيق السيادة الاقتصادية على المستوى الفردي والجماعي.
ثالثًا: أركان الاقتصاد السيادي في مشروع النهضة
- الإنتاج أولًا: لا سيادة بلا قدرة على إنتاج الغذاء، الطاقة، والسلع الأساسية.
- العدالة الاقتصادية: توزيع الفرص والموارد على أسس الكفاءة والاحتياج، لا الولاء والانتماء.
- تحرير الاقتصاد من الهيمنة السياسية والأمنية: استقلال القرار الاقتصادي عن أجهزة السلطة.
- الاقتصاد المحلي المتجذر: تشجيع المبادرات المحلية، دعم الاقتصاد المجتمعي، تمكين الصناعات الصغيرة.
- التكامل التنموي بين المركز والأطراف: إنهاء المركزية في التنمية، وتوزيع الاستثمار بعدالة بين المناطق.
- إدماج الفئات المهمشة في الدورة الاقتصادية: النساء، الشباب، اللاجئين، ذوي الإعاقة.
- بنية قانونية ضامنة: تشريعات عادلة، شفافة، تؤسس للمسؤولية والمساءلة الاقتصادية.
رابعًا: من الدولة المتحكمة إلى الدولة المنظّمة
ليست الدولة في المشروع النهضوي مالك السوق، ولا راعيًا أبويًا للاقتصاد،
بل ضامنة للعدالة، ومنظمة للتوازن، وحامية لحقوق الناس من التغوّل والاستغلال.
وهذا يقتضي:
- كسر احتكار الدولة للقطاعات الحيوية دون تسليمها للخصخصة الفوضوية.
- إنهاء اقتصاد الظل، وربطه بالاقتصاد الرسمي عبر الشفافية والتنظيم.
- دعم مشاريع الإنتاج بدل مشاريع الولاء.
- فرض قواعد حماية اجتماعية عادلة، تمنع الانهيار، وتؤمّن الكرامة الاقتصادية.
خامسًا: تحديات الواقع وفرص البناء – اقتصاد ما بعد الحرب
الواقع السوري اليوم مثقل:
- ببنية تحتية مدمرة،
- بمستويات بطالة وفقر كارثية،
- بقطاعات منهوبة،
- وباقتصاد غير موحّد يخضع لسلطات أمر واقع متعددة.
لكن في قلب هذا الركام، توجد فرص بناء حقيقية إذا استندنا إلى:
- القدرة البشرية السورية المتعلمة داخل البلاد وخارجها.
- الطاقة الكامنة في المبادرات المحلية.
- الشبكات الاقتصادية السورية في المهجر.
- تنوع الموارد الطبيعية والجغرافية.
- إمكانية التدرج الواقعي من الإنعاش إلى البناء الاستراتيجي.
سادسًا: خطوات نحو اقتصاد النهضة – خارطة أولية للتحول
- خطة إنعاش إسعافية قصيرة الأمد: دعم الأسر الفقيرة، إعادة تأهيل القطاعات الأساسية.
- برنامج تحوّل إنتاجي متوسط الأمد: تشجيع الزراعة، الصناعات الخفيفة، السياحة الداخلية.
- استراتيجية اقتصادية طويلة الأمد: بناء اقتصاد المعرفة، تطوير البنية التحتية، جذب الاستثمارات الوطنية لا الريعية.
- مأسسة الحوكمة الاقتصادية: رقابة مستقلة، شفافية كاملة، تقارير دورية مفتوحة.
- تمكين المجتمعات المحلية من التحكم بمواردها عبر لامركزية اقتصادية عادلة.
خاتمة الفصل: الاقتصاد كرافعة للكرامة… لا أداة للهيمنة
لا نهضة بدون اقتصاد.
ولا اقتصاد بدون إنسان حر قادر على الإنتاج والمشاركة.
وفي مشروعنا، الاقتصاد ليس فرعًا تقنيًا للسياسات، بل قلب الدولة ومحرّك التغيير الاجتماعي والسياسي.
ولذلك، فإن فلسفة الاقتصاد النهضوي تبدأ من استعادة السيادة من السوق، ومن الدولة، ومن الخارج، لصالح الإنسان والمجتمع.
فقط حين يتحوّل الاقتصاد من وسيلة حكم إلى وسيلة كرامة،
يمكن أن تُبنى سوريا من جديد… بسواعد أبنائها، وبثرواتها، وبعقولها، لا بعقود التبعية والريع والاستثمار الخارجي المشروط.