القسم الثاني – الباب الثاني
الفصل السابع عشر الغذاء والزراعة
من الجوع والإهمال إلى السيادة الغذائية
مدخل فلسفي–اقتصادي:
الغذاء ليس مجرد سلعة،
ولا الزراعة مجرد مهنة تقليدية.
بل هما معًا تجسيد حيّ لعلاقة الإنسان بالأرض،
ومعيار للسيادة الفعلية،
ومؤشر على قدرة الدولة على توفير الحياة… لا مجرد النجاة.
إنّ الأمم لا تنهض على بطون خاوية،
ولا يمكن أن تستقل إرادة وطنية في ظلّ الارتهان لغذاء مُستورَد،
وزراعة مهمّشة،
وفلاح مسحوق.
ولذلك، فإنّ أي مشروع نهضوي حقيقي لا يكتمل دون إعادة تأسيس البنية الغذائية–الزراعية،
على قاعدة السيادة لا التبعية،
والإنتاج لا الارتزاق،
والكرامة لا الفتات.
أولًا: الزراعة في سوريا – من مورد استراتيجي إلى قطاع منهار
في سوريا ما قبل الانهيار:
- كانت الزراعة تشكّل مصدر رزق لنحو نصف السكان بشكل مباشر أو غير مباشر.
- تشكّل ركيزة اقتصادية قائمة على إنتاج القمح، القطن، الزيتون، الحمضيات، والماشية.
- وتُعدّ الضامن الأساسي للأمن الغذائي المحلي.
لكن منذ عقود، وبشكل ممنهج:
- تم تدمير القطاع الزراعي بسياسات المركزية والإهمال والتهميش.
- تحوّلت الريف إلى خزان للعمالة الرخيصة في المدن.
- جرى تجفيف البنى التحتية الريفية من دعم وتسويق وبحوث وإرشاد.
- وخضعت السياسة الزراعية للارتجال، ثم للفساد، ثم لخرائط الولاء.
وفي مرحلة الحرب، تفاقم الانهيار:
- ملايين الفلاحين نزحوا.
- البنى المائية دُمّرت.
- مستودعات البذور أُحرقت.
- وحلقات التسويق أُمسكت من قبل الميليشيات والسماسرة.
ثانيًا: الجوع كسلاح – حين تصبح لقمة العيش أداة سلطة
في ظل تدمير القطاع الزراعي، لم يكن الجوع نتيجة فقط… بل أداة.
- استُخدمت الإعانات الغذائية كوسيلة ابتزاز.
- ارتبط توزيع الدعم الغذائي بالولاء الأمني.
- تم تفريغ الأسواق من المنتجات المحلية لإغراقها بالبضائع المستوردة عبر شبكات محسوبة على النظام.
- وتمت عسكرة الطحين، واحتكار الخبز، وتهريب الحبوب.
الجوع لم يكن حالة طارئة، بل سياسة استبدادية.
ثالثًا: السيادة الغذائية – من المفهوم إلى الفعل
في مشروع النهضة، نُعيد تعريف الغذاء بوصفه حقًا سياديًا لا سلعةً سوقية.
ونُعرّف “السيادة الغذائية” بأنها:
قدرة الشعب على إنتاج غذائه الأساسي محليًا،
ضمن منظومة عادلة،
تراعي البيئة،
وتُعيد الاعتبار لدور الفلاح،
وتضمن الأمن الغذائي دون تبعية للخارج أو للسوق.
رابعًا: المبادئ الفلسفية للسيادة الغذائية في سوريا الجديدة
- الإنسان قبل السوق: الغذاء يُنتَج ويُوزّع بوصفه حقًّا أساسيًا للعيش الكريم، لا أداة للربح أو الابتزاز.
- الفلاح قيمة سيادية: لا يمكن بناء السيادة الغذائية دون إعادة الاعتبار لدور الفلاح كمحور للإنتاج الوطني.
- الأرض ليست عقارًا فقط: الأرض الزراعية تُحمى من الزحف الإسمنتي، ومن المضاربات العقارية، وتُعاد لرسالتها الطبيعية.
- الاستدامة البيئية شرط للنهضة: لا قيمة للزراعة إن دمّرت التربة، أو استنزفت المياه، أو قتلت التنوع الحيوي.
خامسًا: خارطة التحول – من الإهمال إلى الإنتاج السيادي
- 1. الإصلاح البنيوي الشامل للسياسة الزراعية:
- إعادة هيكلة وزارة الزراعة كمؤسسة مستقلة عن الولاءات الأمنية.
- بناء سياسات طويلة الأمد تستند إلى احتياجات الداخل لا أوامر الخارج.
- ضمان التوازن بين الإنتاج النباتي والحيواني، وبين الزراعة المطرية والريّ الدائم.
- 2. تمكين الفلاح واستعادته كمواطن لا تابع:
- دعم مالي مباشر للفلاحين وفق إنتاجهم لا وفق انتماءاتهم.
- تسهيل الوصول إلى البذور، والأسمدة، والري، والتخزين.
- حماية الأراضي الزراعية من المصادرة أو التهميش.
- 3. البحث الزراعي والسيادة المعرفية:
- بناء مراكز بحث مستقلة لتطوير البذور، ومكافحة الآفات، وترشيد المياه.
- استعادة المعرفة الزراعية التقليدية ودمجها بالابتكار.
- 4. التسويق العادل والحماية من الاحتكار:
- كسر حلقات الاحتكار عبر إنشاء مؤسسات تعاونية حقيقية.
- إنشاء سوق زراعي وطني مستقل.
- دعم منظومة النقل والتخزين والخزن الاستراتيجي للمنتجات.
- 5. العدالة في توزيع الغذاء:
- إلغاء الدعم العشوائي، وتبني سياسات استهداف ذكية.
- دعم المخابز التعاونية ومشاريع الأمن الغذائي المحلي.
- إعادة دعم الحليب والخبز والزيت ضمن خطة سيادية مستدامة.
سادسًا: الزراعة كرافعة للعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة
الزراعة ليست فقط وسيلة لإطعام الناس،
بل رافعة لعدة محاور نهضوية:
- العدالة الاجتماعية: عبر تمكين الريف الذي طالما هُمّش.
- التمكين الاقتصادي: بخلق فرص عمل واستعادة الدورة الإنتاجية المحلية.
- الاستقلال الغذائي: بمنع التحكم الخارجي في لقمة السوريين.
- إعادة الاعتبار للريف: كمصدر معرفة، وثقافة، وصمود، لا كمجال متخلّف.
سابعًا: في مواجهة الأزمة المناخية – الزراعة كفعل مقاومة بيئية
لا يمكن تصور سياسة زراعية حديثة دون إدراك عمق التغيرات المناخية، ولهذا يجب أن تشمل الرؤية:
- التكيّف مع التصحر والجفاف.
- تطوير زراعات بديلة مقاومة.
- ترشيد استخدام المياه.
- الاستثمار في الطاقة المتجددة في الزراعة.
- دعم الزراعة البيئية والعضوية.
خاتمة الفصل: الغذاء كفعل سيادي… والزراعة كفلسفة حياة
سوريا الجديدة لا يمكن أن تنهض على استيراد الخبز،
ولا يمكن أن تتحرر وهي عاجزة عن إطعام نفسها.
وفي قلب مشروع النهضة،
تقف الزراعة كاختبار للكرامة،
والغذاء كمؤشر للسيادة،
والفلاح كصانع للوجود لا كرقم في قوائم الدعم.
لن نكون أحرارًا…
إلا إذا امتلكنا حقّنا في الأكل من أرضنا،
وصنع خبزنا بأيدينا،
وأن ننهض من التراب… لا من القروض.