web analytics
القسم الثاني – الباب الثالث

الفصل العشرون الطفل في مشروع النهضة

من الحماية الشكلية إلى الرعاية التكوينية

مدخل فلسفي: الطفولة كمنشأ للمعنى لا مجرد مرحلة

ليست الطفولة في فلسفة النهضة السورية مرحلةً عمريةً تُستهلك بانتظار النضج، بل هي اللحظة الوجودية التي يُعاد فيها بناء الوعي من نقطة الصفر، وتُصاغ فيها علاقات الإنسان الأولى مع ذاته، ومع الآخر، ومع السلطة، ومع المفاهيم الكبرى: الحرية، العدالة، الحماية، والحب.

في الطفولة لا تتشكّل فقط الذكريات، بل تتكوّن البنية التحتية للكينونة: هل يُربّى الإنسان ليُطيع أم ليُفكّر؟ ليخضع أم ليعبّر؟ هل يشعر أن العالم مكانٌ آمن يسعه، أم فضاء عدائيٌ يهدّده؟

إن المجتمع الذي لا يُنصت لأطفاله، لا يصنع مستقبله بل يُراكم خوفه.

ومن هنا، فالنهضة التي لا تنظر للطفل إلا ككائن ضعيف يحتاج إلى الرعاية، هي نهضة مغشوشة.
أما النهضة الحقيقية، فهي التي ترى في الطفل أصل السيادة، ومختبرًا أوليًا لعقد اجتماعي مصغّر، تنبثق منه أسس الحرية، والانتماء، والمسؤولية.

أولًا: الطفولة في المجتمعات السلطوية – من الطفولة إلى الترويض

السلطة الاستبدادية لا ترى في الطفل “إنسانًا صغيرًا”، بل مشروعَ مواطنٍ مستقبلي يجب قولبته من الآن،
ولذلك تسعى إلى:

  • تحويل الطفولة إلى مسرحٍ للانضباط المبكر.
  • تجريد الطفل من الصوت والاختلاف والفضول، واستبدالها بالتلقين، والخوف، والولاء.
  • تنميط الأحلام، والسيطرة على الخيال، ومصادرة العفوية.

وهكذا يتحوّل البيت إلى نواة سلطة، والمدرسة إلى ثكنة صامتة، والتعليم إلى آلة تمجيد لا آلة تفكير.
وفي هذا المناخ، لا يُسمح للطفولة أن تكون طفولة، بل تُختزل في مشهد تدريبي لإنتاج الرعية.

ثانيًا: الطفولة كمجال فلسفي–سياسي – ما قبل السياسة هو أصلها

لسنا هنا أمام ملف اجتماعي “إنساني” فقط.
بل إن الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع أطفاله هي التعبير الأعمق عن طبيعة نظامه السياسي.
فحين يُربّى الطفل على القمع، لا يمكن أن يُنتج مواطنًا ديمقراطيًا.
وحين يُجرَّد من أسئلته، لا يمكن أن يُؤمَن عليه بتأسيس نظام سياسي حرّ.

إن إعادة النظر في الطفولة تعني، فلسفيًا:

  • تحطيم صورة “الإنسان الناقص” في الطفل، وإعادة الاعتبار لعقله الحي، ولحريته الغريزية.
  • إدراك أن كل منظومة سياسية تبدأ من الأسرة والمدرسة قبل البرلمان والدستور.
  • فهم أن علاقة الطفل بالسلطة الأولى (الأهل، المعلم) هي التي ستؤسس لاحقًا لعلاقته بالدولة، والدين، والمجتمع، والسلطة السياسية.

بمعنى آخر: من لا يعيد تعريف الطفولة، لن يعيد تعريف المجتمع.

ثالثًا: نحو “حقّ الطفولة في أن تكون ذاتًا

كلما تعمّقنا فلسفيًا في جوهر العدالة، نكتشف أن الطفولة تُختزل غالبًا في “الحاجة إلى الحماية”، وتُنسى كـ”حق في أن تكون”.
لكن الطفل لا يحتاج فقط إلى من يطعمه أو يحميه، بل إلى من يعترف بوجوده كـ”ذات، لها إرادة، وخيال، ورؤية، وسؤال.

فالرعاية الحقيقية تبدأ عندما:

  • لا نُصوّر الطفل كوعاء نملأه، بل ككائنٍ يفتح أمامنا أبوابًا للسؤال والتجدد.
  • لا نفرض عليه كيف يكون، بل نمكّنه من أن يكتشف من يكون.
  • لا نُسابق الزمن لنحوّله إلى “راشد صغير”، بل نحترم زمن الطفولة بوصفه زمن الحرية الأصلية.

وهنا تكمن الرعاية التكوينية:
أن نُربّي الإنسان لا على الطاعة، بل على الجرأة في أن يرى، ويسأل، ويعبّر، ويخطئ، ويعيد البناء.

رابعًا: من الطفل كملف قانوني إلى الطفل ككيان سيادي صغير

القوانين التي تُكتب لحماية الطفل، في كثير من المجتمعات، تفعل ذلك من خارج فلسفة “السيادة البشرية”، فتُنتج قوانين شكلية:

  • تمنع العنف لكن تُغذّيه ثقافيًا.
  • تفرض التعليم لكنها لا تضمن الجودة أو التفكير الحر.
  • تتحدّث عن الحقوق لكنها لا تعترف بقدرة الطفل على “الإرادة” أو “المشاركة”.

في مشروع النهضة، لا نُقنّن حقوق الطفل فقط، بل نُعيد صياغة الفلسفة التي نُقنّن على أساسها،
بحيث لا نرى في الطفل “موضوعًا للحماية”، بل فاعلًا صغيرًا في بناء المعنى.

خامسًا: مكونات الرعاية التكوينية للطفل في النهضة السورية

  1. فلسفة تربوية تحررية:
  • لا تلقينية ولا أيديولوجية.
  • تنمّي العقل، وتُحرّر الخيال، وتُشرك الطفل في صياغة عالمه.
  1. تحرير الأسرة من السلطوية:
  • منطق التربية لا يقوم على السيطرة، بل على العلاقة والاحترام والحوار.
  • إلغاء قدسية العنف “التربوي”، وإعادة بناء مفهوم “السلطة الأبوية” كعلاقة رعاية لا قهر.
  1. إعادة تشكيل المدرسة:
  • من منشأة ضبط إلى مختبر للحرية.
  • المدرسة ليست جسرًا إلى الشهادة، بل إلى الذات والوعي والقدرة.
  1. إعلام الطفولة:
  • يُنتج المعنى لا الاستهلاك.
  • يُخاطب الطفل بوصفه فكرًا وعاطفة، لا فقط سوقًا أو مشاهدًا خاملاً.
  1. الاعتراف السياسي بحقوق الطفل:
  • الطفل جزء من العقد الاجتماعي – ولو بالتمثيل الرمزي.
  • المجتمع الذي لا يُشرك الطفل في إنتاج مستقبله، يُسلمه للانكسار.

سادسًا: الطفل بوصفه أصل الإنسان السيادي

إذا كانت “السيادة” تبدأ من وعي الذات،
فأين تبدأ الذات إن لم تبدأ في الطفولة؟

وهل يُمكن أن نؤسّس دولة سيادية من دون مواطنين يشعرون أنهم يملكون أنفسهم؟

وهل يمكن أن يشعر إنسانٌ بأنه يملك نفسه، إذا لم يُعترف له منذ الطفولة أنه يستحق أن يُسأل، ويُصغي إليه، ويُؤخذ برأيه، ويُحترم اختلافه؟

لهذا، فإن الطفل ليس فقط نقطة بداية.
بل هو اختبار يومي لمدى صدق المجتمع مع قيمه العليا: الحرية، الكرامة، العدالة، والحق في المعنى.

خاتمة الفصل: حين يولد الإنسان… تبدأ النهضة

كل مشروع سياسي يبدأ من الطفل،
وكل دولة حقيقية تنعكس في طريقة تعاملها مع من لا يملك القوة،
ومن لا يُنتج بعد،
ومن لا يصوّت،
ومن لا يُرهب السلطة.

الطفل هو مرآة المستقبل،
وصوته هو أول ما يجب أن يُصغى إليه إن أردنا دولة تسمع.

وفي مشروع النهضة السورية،
لن نُعيد بناء المجتمع من الأعلى،
بل من أقدس نقطة فيه: الطفولة… حيث يولد الإنسان لأول مرة.