القسم الثاني – الباب الثالث
الفصل الواحد والعشرون ذوو الاحتياجات الخاصة
من التغييب البنيوي إلى التمكين الكامل
مدخل فلسفي–إنساني
في قلب كل مشروع نهضوي حقيقي،
ينبغي أن يُعاد تعريف الإنسان…
لا وفق قدراته الجسدية أو الحسية،
بل وفق جوهره العقلي، وطاقته الوجودية، وقدرته على الإسهام.
في سوريا، لم يُعامل ذوو الاحتياجات الخاصة بوصفهم مواطنين كاملي الأهلية والمشاركة،
بل غالبًا كـ”عبء”، أو كـ”ضحايا”، أو كحالة تحتاج إلى رعاية لا إلى تمكين.
أُخرجوا من حسابات الدولة،
وغُيّبوا عن الفضاء العام،
ولم يُدرَك وجودهم إلا عند الحاجة الدعائية، أو ضمن خطاب الرحمة لا ضمن منطق الحقوق.
لكن في فلسفة النهضة،
نبدأ من أن الاختلاف لا ينقص الإنسان، بل يوسّع فهمنا لما تعنيه الكرامة.
وذوو الاحتياجات الخاصة ليسوا “فئة محددة”،
بل هم جزء من النسيج المجتمعي الكامل،
ومعيار أساسي لقياس إنسانية الدولة.
أولًا: من التغييب الرمزي إلى الإقصاء البنيوي – واقع ذوي الاحتياجات الخاصة في سوريا
- في القانون:
أغفلت التشريعات غالبًا الاحتياجات الواقعية لذوي الإعاقة،
أو عالجتها بصياغات عمومية غير مُلزمة. - في البنية التحتية:
لم تُصمَّم المدن، المدارس، المواصلات، أو المرافق العامة لتكون قابلة للاستخدام من قبل الجميع. - في التعليم:
النظام التربوي لم يتضمن آليات إدماج،
بل دفع الأطفال ذوي الإعاقة إلى الانسحاب، أو إلى مؤسسات “عزلية”. - في العمل:
وُضعوا خارج التنافس،
وغالبًا ما تُوظّف إعاقتهم كمبرر للحرمان، بدل أن تُعتبر عنصرًا في التنوع. - في الإعلام والثقافة:
غاب تمثيلهم،
أو اقتصر على صور نمطية “بطولية” أو “عاجزة”. - في السياسة:
لا حضور لهم، لا في التمثيل، ولا في صناعة القرار، ولا حتى في الخطاب العام.
وهكذا، لم تُقصِهم الدولة فقط من السياسات،
بل من الخيال العام لما تعنيه المواطنة.
ثانيًا: من الرعاية إلى الحقوق – التحوّل المفاهيمي المطلوب
في فلسفتنا للنهضة، نرفض التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بمنطق:
- الشفقة،
- أو الرعاية،
- أو الرمز الإعلامي،
- أو الحضور الشكلي.
ونقترح بديلًا تأسيسيًا:
ذوو الاحتياجات الخاصة هم أفراد كاملو المواطنة،
ويجب أن تكون الدولة مسؤولة عن إزالة العوائق أمام مشاركتهم،
لا أن تجعلهم “موضوعًا” للتعاطف المؤقت.
ثالثًا: الحقوق الأساسية – ماذا يعني التمكين الكامل؟
- الحق في البيئة المهيّأة:
- تصميم حضري يُراعي التنقل والولوجية،
- تسهيلات في المباني والمرافق،
- مواصلات عامة قابلة للاستخدام.
- الحق في التعليم الشامل:
- إدماج كامل في النظام التعليمي،
- كوادر مُدرّبة،
- مناهج تستجيب للتنوع الحسي والمعرفي.
- الحق في العمل الكريم:
- فرص متكافئة،
- دعم خاص للتأهيل،
- رفض أي تمييز مبني على الإعاقة.
- الحق في التمثيل السياسي والاجتماعي:
- حضور في المجالس المحلية والبرلمان،
- دور فاعل في المجتمع المدني،
- إشراكهم في صياغة السياسات المرتبطة بهم.
- الحق في الحماية القانونية والصحية والاجتماعية:
- قانون خاص لضمان الحقوق،
- تأمين صحي شامل،
- نظام حماية من العنف والإقصاء والإهمال.
رابعًا: فلسفة الإدماج لا فلسفة العزل – إعادة تصميم الدولة والمجتمع
ندعو في هذا المشروع إلى تحول جذري في مقاربة الدولة لهذه الفئة:
- من سياسات معزولة أو خيرية،
- إلى نهج إدماجي بنيوي يشمل:
-
- التخطيط المدني،
- السياسات الاجتماعية،
- النظام التعليمي،
- النظام القضائي،
- المنظومة التمثيلية والدستورية.
فذوو الاحتياجات الخاصة ليسوا على الهامش،
بل هم جزء من إعادة تعريف الدولة بوصفها فضاء للكرامة المتساوية.
خامسًا: خارطة طريق لتمكين ذوي الاحتياجات الخاصة في سوريا النهضوية
- صياغة قانون متقدم لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، مستند إلى المعايير الدولية وخصوصية الواقع السوري.
- تشكيل هيئة وطنية مستقلة لضمان تطبيق هذا القانون ومراقبة التمييز.
- إلزام المؤسسات الحكومية والخاصة بتطبيق شروط الولوجية والدمج.
- تخصيص ميزانيات مستقلة لدعم مشاريع تمكين هذه الفئة.
- إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة في صياغة السياسات التي تخصهم.
- تغيير الخطاب الإعلامي ليعكس واقعية وإنسانية الوجود المختلف.
- إدخال مادة “الوعي بالتنوع الإنساني” ضمن المناهج التعليمية.
خاتمة الفصل: لا نهضة بلا كرامة… ولا كرامة بلا شمول
حين تُبنى الدولة لتشمل الجميع،
ويُعاد تعريف “الطبيعي” بأنه “متنوع”،
حينها فقط يمكن أن نقول إننا دخلنا زمن النهضة.
وذوو الاحتياجات الخاصة ليسوا “استثناءً”،
بل هم اختبارنا الأخلاقي–المعرفي–السياسي الأول والأصعب.
فلا معنى للسيادة،
ولا جدوى من المواطنة،
ولا قيمة للعدالة،
إن لم يكن هذا المواطن المختلف جزءًا من كل… لا خارجًا عن كل.