web analytics
القسم الثاني – الباب الرابع

الفصل السابع والعشرون الإدارة

من الولاء الوظيفي إلى الحوكمة الرشيدة

مدخل فلسفي – تحليلي

الإدارة ليست مجرد هيكل تنظيمي،
ولا جدولًا وظيفيًا،
ولا تراتبية مكتبية.

بل هي تجسيد عملي لفلسفة الدولة،
وانعكاس مباشر لطبيعة علاقتها بالمجتمع.

في الدول التسلطية، تتحوّل الإدارة إلى جهاز ولاء،
وإلى نظام “مكافأة الطاعة” بدل استحقاق الكفاءة،
فتُصبح الوظيفة العامة امتيازًا لا مسؤولية،
ويُختزل معنى الإدارة في “من يخدم من؟”

وفي سوريا، لم تكن الإدارة يومًا وسيلة لتحقيق الصالح العام،
بل أداة لتوزيع النفوذ،
وإنتاج التبعية،
وحراسة الهرم السلطوي.

ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن يتحقق دون تفكيك النموذج الإداري الوراثي والولائي،
وبناء إدارة حديثة–رشيدة،
تُدار بالعقل، لا بالعُصبَة،
وتُقاس بالكفاءة، لا بالقرابة،
وتُراقَب بمعايير الشفافية لا بالأوامر الهاتفية.

أولًا: ملامح الإدارة السلطوية في التجربة السورية

تحوّلت الإدارة العامة في سوريا إلى منظومة موازية للسلطة:

  • التعيينات تتم على أساس الولاء الشخصي أو الطائفي.
  • الموظفون الكبار يُنصَّبون لا يُختارون.
  • الترقية مرتبطة بالسكوت لا بالإنجاز.
  • المؤسسات تُدار بمنطق الزعامة لا بمنهجية التخطيط.
  • الرقابة شكلية، ومكاتب التفتيش أدوات لابتزاز الخصوم لا لتصحيح الأداء.

والنتيجة:
جهاز إداري مترهّل،
يُنتج الفساد،
ويمنع الفعالية،
ويكسر العلاقة بين المواطن والدولة.

ثانيًا: فلسفة الإدارة في الدولة النهضوية – من الخدمة إلى الشراكة

في مشروع النهضة، نُعيد تعريف الإدارة بوصفها:

أداة تنفيذ عقلانية للقيم الدستورية والسياسات العامة،
تعمل بشفافية،
وتخضع للمساءلة،
وتقوم على الخدمة لا السيطرة،
وتبني علاقة أفقية بين الدولة والمجتمع.

الإدارة الجيدة ليست محايدة فقط،
بل أخلاقية وفعالة وتشاركية.

وليست حاضنة للوظائف،
بل مُحرّكًا للتنمية.

ثالثًا: من الوظيفة إلى المسؤولية – تفكيك عقلية “الموظف التابع

لكي ننهض إداريًا، لا بد من خلخلة النموذج التقليدي الذي يرى:

  • أن الوظيفة العامة فرصة للعيش لا للمساهمة.
  • أن الراتب هو الهدف، لا الأثر.
  • أن الإخلاص يعني السكوت لا المبادرة.
  • أن الخوف من “الغلط” أهم من السعي نحو “الصح”.

في الدولة النهضوية، الوظيفة العامة تعني:

  • مسؤولية تجاه المجتمع،
  • التزامًا بالكفاءة،
  • خضوعًا للمساءلة،
  • وقدرة على التفكير لا فقط التنفيذ.

رابعًا: مبادئ الحوكمة الرشيدة – التحول من السيطرة إلى التنظيم

التحول الإداري لا يكون بقرارات فوقية،
بل بإعادة تأسيس القواعد الجوهرية لإدارة الشأن العام.

وذلك على الأسس التالية:

  1. الشفافية: كل قرار إداري يجب أن يكون قابلاً للتفسير والاطلاع والمساءلة.
  2. المحاسبة: لا حصانة لأي مسؤول، مهما علت رتبته.
  3. المشاركة: تُبنى السياسات بتشاور واسع، لا بتعميمات سرية.
  4. العدالة الوظيفية: التعيين والترقية وفق معايير معلنة ومجربة.
  5. الكفاءة بدل الولاء: معيار التوظيف هو القدرة… لا القرب.
  6. التدريب والتطوير المستمر: كل موظف هو مشروع ارتقاء لا فقط آلة تنفيذ.
  7. رقابة مستقلة: تفتيش حقيقي، لا واجهة، تابع لجهات مستقلة لا للسلطة التنفيذية.

خامسًا: الإدارة في علاقتها بالمجتمع – من حاجز بيروقراطي إلى جسر خدمات

في سوريا، كان المواطن يرى في الإدارة:

  • طابورًا طويلًا،
  • موظفًا متجهمًا،
  • معاملة ضائعة،
  • رشوة واجبة،
  • و”واسطة” مفتاح الحل.

في الدولة النهضوية، يجب أن تتحوّل الإدارة إلى:

جسر تفاعل يومي بين المواطن والدولة،
تُبسّط لا تُعقّد،
تُوضّح لا تُربك،
تُمكّن لا تُقصي.

ولهذا، يجب الاستثمار في:

  • التحول الرقمي الشفاف
  • الخدمة الإلكترونية المتاحة للجميع
  • مراكز خدمة مدنية لا حزبية ولا طائفية
  • كوادر مدرّبة ومُختبرة في التفاعل مع الناس

خاتمة الفصل: من جهاز الولاء إلى رافعة النهضة

لن تُبنى الدولة الحديثة بمفكرين فقط،
ولا بثوار فقط،
ولا بنصوص عظيمة دون جهاز يطبّقها.

الإدارة هي الجسد التنفيذي للعقد الاجتماعي،
ومرآة يومية لأخلاق الدولة.

ولهذا، فإن تحرير الإدارة من الولاء،
وإعادة بنائها على الحوكمة الرشيدة،
ليس مجرد إصلاح مؤسساتي،
بل شرط وجود نهضوي لا يمكن تجاوزه.