web analytics
القسم الثاني – الباب الخامس

الفصل الثلاثون الثقافة

من الترف النخبوي إلى رافعة التغيير

مدخل فلسفي – تحليلي:

ليست الثقافة مجرد كتب تُقرأ،
ولا معارض فنية، ولا صالات عرض،
ولا هي امتياز نخبة تعيش في أبراجها العالية.

الثقافة هي البنية التحتية الأعمق لأي تحوّل.
هي الشبكة الخفية التي تُشكّل قيم الناس،
وتُنتج صورهم عن أنفسهم،
وتبني الذوق العام،
وتصوغ العلاقة بين الإنسان والعالم،
وبين الفرد والمجتمع،
وبين الحلم والفعل.

ولهذا، لا يمكن أن توجد نهضة بلا ثقافة نهضوية.
ولا يمكن أن يُبنى مشروع سياسي أو معرفي أو تنموي أو دستوري،
دون أن يُعاد بناء الثقافة: كمحتوى، وكممارسة، وكفضاء اجتماعي مشترك.

أولًا: تشريح الثقافة في سوريا – من الترويض إلى الزينة

في ظل الأنظمة التي حكمت سوريا،
لم تُعتَبَر الثقافة يومًا أداة لتشكيل الوعي،
بل إما:

  • ديكور دعائي، لإظهار وجه “حضاري” مزيّف للسلطة
  • أو أداة ترويض ناعمة، تُشيد بالحاكم، وتُحبط التفكير، وتُفرغ الفن من مضمونه
  • أو مُنتجًا نخبوياً محصورًا لا يمسّ حياة الناس، بل يزيد اغترابهم

وقد ساهمت السياسات الثقافية السلطوية في:

  1. تدجين الإبداع: بحيث لا يخرج عن المسموح سياسياً وأمنياً
  2. شيطنة الفكر النقدي: باعتباره “مؤامرة” أو “تفكيكاً للنسيج الوطني”
  3. مركزة الإنتاج الثقافي في العاصمة: وتهميش الثقافات المحلية
  4. ربط الفنون بالولاء لا بالرسالة
  5. تشجيع التفاهة والمظاهر، وخنق العمق والمضمون

النتيجة: ثقافة استعراضية، لا تغيّر شيئًا
مثقفون يُكرّرون ما تقوله السلطة بلغات جميلة
ومجتمع يرى الثقافة رفاهية لا تخصّه

ثانيًا: الثقافة في الثورة – حين نطق الهامش

مع اندلاع الثورة،
خرجت الثقافة من أسوار المؤسسات الرسمية،
وتحررت الأصوات المهمّشة:

  • غنّى الناس في الشوارع
  • رسم الأطفال على الجدران
  • دوّن الشباب شهاداتهم
  • أعاد السوريون اكتشاف قصصهم، ولهجاتهم، وذاكرتهم

لكن هذه اللحظة، مثل كل لحظات الثورة،
تعرّضت للاحتواء أو التشويه أو السحق:

  • إما عبر استغلالها سياسيًا
  • أو عبر مصادرتها من قبل الخطابات المتطرفة
  • أو بسبب غياب بنية حاضنة ومستقلة للثقافة الحرة

وهكذا، بقيت الثقافة السورية تتحرك بين الصراخ والخوف،
بين الجمال المكبوت والرقابة الخفية،
دون أن تُؤطَّر في مشروع معرفي نهضوي جامع

ثالثًا: الثقافة كرافعة نهضوية – من التعبير إلى التغيير

في مشروع النهضة، لا نُعيد الاعتبار للثقافة بوصفها “زينة”،
بل بوصفها:

أداة لتغيير الوعي
رافعة لإنتاج الإنسان السيادي
منصة لإعادة تشكيل الخيال الجمعي
ووسيلة لتحرير العلاقة بين السلطة والمجتمع

فالثقافة ليست فقط ما يُنتَج،
بل كيف يُنتَج ولمَن؟
وما الذي يُقصى منها؟
وما القيم التي تروّج لها؟
ومن يملك حق السرد والحكاية والرمز؟

رابعًا: خارطة طريق لإعادة بناء البنية الثقافية

  1. تحرير الفضاء الثقافي من قبضة السلطة
  2. إلغاء الوصاية الدينية أو الأمنية أو الحزبية على الإنتاج الثقافي
  3. دسترة حرية الإبداع والتعبير والرأي والفن
  4. تمكين الفنون الشعبية والثقافات المحلية لتصبح جزءًا من الهوية الجامعة
  5. دعم الإنتاج الثقافي المستقل، وتمويله بشفافية
  6. إعادة تعريف دور المؤسسات الثقافية لتكون منابر حرة لا أدوات دعاية
  7. إطلاق فضاءات ثقافية في كل مدينة وبلدة، مرتبطة بالناس لا بالسلطة
  8. ربط الثقافة بالمدرسة والجامعة والمجتمع لا فقط بالصالونات

خامسًا: من الثقافة النخبوية إلى الثقافة المجتمعية

نحن لا نريد نخبة “تكتب للكتب”،
ولا فنانًا يعرض لوحاته أمام جدران صامتة.

نريد ثقافة تنبع من الناس،
وتُخاطبهم بلغتهم،
وتُعالج قضاياهم،
وتُحفزهم على التفكير،
وتُربّي الذوق العام على الحرية، لا الخضوع

وهذا يقتضي:

  • تغيير المنظومة التعليمية لتُخرّج قارئًا لا حافظًا
  • تفعيل دور الفنون في الحياة اليومية
  • تحويل الإعلام إلى منصة ثقافية واعية لا وسيلة تسلية فقط
  • مصالحة الناس مع ثقافتهم بعد عقود من الإقصاء والتهميش

خاتمة الفصل: الثقافة كأرضية النهضة ومعيارها

إن أي مشروع نهضوي لا يجعل من الثقافة قلبه،
هو مشروع سيهوي عند أول اهتزاز رمزي.
فالثقافة ليست ترفًا، بل شرط بقاء المجتمعات الحيّة.

وحين نُحرر الثقافة من قبضة السلطة،
ومن اختزالها في النخبة،
ونُعيدها إلى الحياة اليومية،
وإلى ضمير الناس وخيالهم،
عندها فقط تبدأ النهضة في التحقق،
ليس عبر القوانين وحدها،
بل عبر القيم… والخيال… والمعنى.