القسم الثالث – الباب الرابع
الفصل الثامن عشر التنمية المتوازنة والمجتمعات المحرومة
مقدمة تأطيرية:
لم تكن الحرب هي التي خلقت الفقر في سوريا، بل كشفت عنه وعمّقته.
فالحرمان والتهميش كانا موجودين قبل القصف، وقبل النزوح، وقبل الانهيار، لكنّهما كانا مستترَين تحت شعارات زائفة عن “الوحدة الوطنية”، و”التنمية المتكاملة”، و”الدولة الراعية”.
في الواقع، كان الاقتصاد السوري مبنيًّا على مركزية مطلقة في توزيع الموارد والخدمات والفرص، حيث تنال العاصمة ومحيطها الحصة الكبرى، بينما تُترك الأطراف، والريف، والمناطق المهمشة، في دوائر التخلّي والتهميش.
واليوم، لا يمكن الحديث عن مشروع نهضوي حقيقي دون تصحيح هذا الاختلال البنيوي، وجعل التنمية المتوازنة هي العمود الفقري لأي سياسة اقتصادية جديدة.
أولًا: معالم التهميش في النموذج السوري القديم
- تهميش جغرافي:
-
- محافظات بكاملها كدير الزور والرقة والحسكة لم تحظَ بأبسط البنى التحتية.
- مناطق جبلية، بدوية، أو حدودية تم التعامل معها كهوامش أمنية لا كجزء من النسيج الوطني.
- تهميش اجتماعي:
-
- فئات كالعاملين بالزراعة، والنساء، والشباب، وأبناء المناطق الريفية، تم استبعادهم من دوائر القرار والدعم.
- تهميش مؤسساتي:
-
- غياب المجالس المحلية المنتخبة فعليًا.
- مراكز القرار مركّزة في دمشق، بدون أي تفويض حقيقي للمناطق.
- تهميش في توزيع الاستثمارات والوظائف:
-
- غالبية المشاريع الحكومية والمصانع والخدمات الصحية والتعليمية وُضعت في محيط العاصمة أو المدن الكبرى.
ثانيًا: التنمية المتوازنة كمفهوم سيادي وعدالة اقتصادية
التنمية المتوازنة لا تعني مساواة سطحية، بل تعني تصحيح اختلال تاريخي، وتحقيق عدالة مكانية – اجتماعية – اقتصادية.
وتقوم على مبادئ:
- الحق في التنمية كجزء من المواطنة.
- توزيع المشاريع والموارد على أساس الحاجة والكثافة والحرمان، لا الولاء أو النفوذ.
- تمكين المناطق من إدارة شؤونها التنموية، ضمن إطار وطني جامع.
- تأسيس بنى تحتية متكاملة في كل منطقة (طرق – كهرباء – ماء – اتصالات – تعليم – صحة).
- بناء مراكز إنتاج إقليمية، تُخفف العبء عن المركز، وتُحفّز الاقتصاد المحلي.
ثالثًا: أدوات تنفيذ التنمية المتوازنة
- خريطة تنموية وطنية تُرصد فيها الفجوات بين المناطق على أساس علمي وبيانات دقيقة.
- صندوق وطني للتنمية الإقليمية، يُموّل من الضرائب المركزية والمساعدات الدولية، ويُدار بشفافية لصالح المناطق المحرومة.
- نقل جزئي للسلطات المالية والتنموية إلى المجالس المحلية، لتمكينها من اتخاذ القرار التنموي ضمن صلاحيات واضحة.
- تحفيز الاستثمارات في المناطق الطرفية عبر حوافز ضريبية وتشجيعية حقيقية.
- ربط التعليم والتدريب المهني باحتياجات كل منطقة، بما يضمن التشغيل المحلي لا التهجير الداخلي بحثًا عن العمل.
رابعًا: التنمية كبوابة للمصالحة الوطنية
- لا يمكن للمجتمعات التي تم تهميشها لعقود أن تُسلّم بالعقد الاجتماعي الجديد، ما لم تلمس فرقًا فعليًا في حياتها.
- ولا يمكن للمهجّرين أن يعودوا إلى أراضيهم، إذا كانت تلك المناطق ما تزال خارج نطاق التنمية.
- التنمية المتوازنة تعني إدماج كل مناطق سوريا في مشروع النهضة، دون تمييز، دون وصاية، دون احتقار مركزي.
وهكذا، تتحوّل التنمية إلى أداة للعدالة، ولإعادة الثقة، ولتمكين المجتمع من بناء مستقبله بكرامة.
خاتمة الفصل:
لا يُقاس نهوض دولة بحجم اقتصادها فقط، بل بعدالة توزيع هذا الاقتصاد.
والدولة التي تترك أطرافها في الظلمة، لن تعرف النور يومًا.
ولهذا، فإن مشروع النهضة يُعلن بوضوح:
لا مركزية للامتياز، لا تهميش بعد اليوم، لا تنمية إلا إذا شملت الجميع، من الحسكة إلى درعا، من إدلب إلى السويداء.