القسم الرابع – الباب الثالث
الفصل الثامن العقد القيمي الجديد
مبادئ العيش المشترك بعد الانقسام
مقدمة تحليلية
في المجتمعات التي دمّرتها الحروب الأهلية، لا يكفي أن تتوقّف البنادق حتى نقول إن السلام عاد.
فالسكوت ليس وحدة، والتعايش القسري ليس شراكة، والمجاملات السياسية لا تبني وطنًا.
الانقسام العميق الذي خلّفته الحرب السورية، لم يكن جغرافيًا فقط، بل قيميًا ونفسيًا واجتماعيًا،
ما يتطلّب إعادة تأسيس “عقد قيمي جديد” ينظّم العيش المشترك لا عبر القسر، بل عبر الاتفاق الطوعي على معايير جديدة للكرامة، والاختلاف، والانتماء.
فالمجتمع السوري اليوم بحاجة إلى قاعدة أخلاقية–فكرية نابعة من الداخل، تُعرّف:
كيف نختلف؟
كيف نعيش معًا؟
ما الذي لا يجوز تجاوزه مهما اشتدّ الصراع؟
وما هي القيم التي تُلزم الجميع، فوق السياسة، وفوق الطائفة، وفوق الولاء؟
أولًا: الانقسام القيمي بعد الحرب – بين الخوف والثأر
- تآكل المعايير المشتركة
لم يعد هناك إجماع على الصح والخطأ،
سقطت القيم الموحدة، وبرزت “قيم الطائفة” أو “قيم الفصيل” كمرجعيات متنافرة. - صعود منطق الغلبة بدل منطق العدالة
كل طرف يسوّغ أفعاله بحقه في “الردّ” أو “الوقاية” أو “النجاة”،
وتراجعت قيمة الإنسان لصالح الانتماء والهويّة. - انهيار الثقة بين الجماعات
الخوف والشك والحقد المتراكم عطّل أي استعداد للتقارب،
وصار “العيش المشترك” مجرد عنوان فارغ، لا عقدًا حقيقيًا.
ثانيًا: الحاجة إلى عقد قيمي جديد
- العيش المشترك لا يُفرض، بل يُبنى على أرضية وجدانية–أخلاقية
القوانين تضمن الحقوق، لكن القيم تضمن الاستقرار.
لا يمكن بناء دولة دون أرضية أخلاقية تُحرّم الانتقام، وتحمي التعدد، وتُلزم بالاعتراف المتبادل. - العقد القيمي هو حجر الأساس لأي ميثاق وطني
فلا معنى لدستور لا يُعبّر عن وجدان الشعب.
ولا شرعية سياسية دون توافق على المبادئ الأخلاقية التي تحكم الاجتماع السياسي. - القيم المشتركة تُنقذ المجتمع من التذرر المطلق
وتمنح كل فرد إحساسًا بالانتماء دون خوف، وبالمساواة دون إذلال.
ثالثًا: مبادئ العقد القيمي المنشود
- قدسية الحياة الإنسانية
لا تبرير للقتل أو الإذلال أو التعذيب تحت أي ذريعة.
حماية الكرامة البشرية هي القيمة العليا التي تُبنى عليها كل القوانين. - الاعتراف المتبادل بالاختلاف
لا فضل لمكوّن على آخر، ولا وصاية فكرية أو دينية أو قومية.
التنوع ليس خطرًا، بل مصدر غنى. - نبذ الإقصاء والتخوين والتكفير
القيم الجديدة يجب أن تجرّم ثقافة العزل والشيطنة.
لا “وطنية” تُبنى على نفي الآخرين. - المسؤولية الجمعية عن الألم الوطني
لا يملك أي طرف احتكار سردية الضحية أو الشرعية.
الكارثة السورية مسؤولية جماعية، والخروج منها واجب جماعي. - أولوية الصالح العام على المصالح الضيقة
لا يمكن للفساد أو المحسوبية أو الولاء الأعمى أن تبقى مقبولة ضمن وعي أخلاقي جديد.
يجب أن تُربّى الأجيال القادمة على احترام القانون، لا على تجاوزاته “الذكية”.
رابعًا: آليات ترسيخ العقد القيمي في الوعي العام
- التربية على القيم منذ الطفولة، في المناهج وفي الأسرة.
- إطلاق حوارات وطنية مجتمعية حول المبادئ الأخلاقية المشتركة.
- إنتاج أدبي وفني يُجسّد هذه القيم ويوصلها بلغة إنسانية مؤثرة.
- تجريم خطاب الكراهية والطائفية قانونيًا، وتجفيف منابعه ثقافيًا.
- إنشاء “مجلس قيمي–وطني” رمزي يُمثّل المرجعية الأخلاقية الجامعة للمجتمع.
خاتمة الفصل
قد تُبنى الدولة بدستور، وتُدار بمؤسسات،
لكنها لن تصمد ما لم تتأسس على “روح أخلاقية” يتشارك فيها الجميع.
العقد القيمي الجديد في سوريا ليس وثيقة، بل ضمير جمعي يُعيد تعريف من نحن، وما الذي لا يمكن أن نقبله بعد اليوم.
فلا معنى للسيادة إذا كانت بلا كرامة،
ولا معنى للكرامة إذا لم نحترم الآخر كحق، لا كاستثناء،
ولا معنى للعيش المشترك، إذا لم ينبنِ على قاعدة وجدانية تقول بوضوح:
“نحن مختلفون، لكننا متساوون، وهذا وطننا جميعًا.”