web analytics
القسم الرابع – الباب الثالث

الفصل التاسع العدالة الرمزية

من الذاكرة الجريحة إلى السيادة الجمعية

 مقدمة تحليلية

في المجتمعات الخارجة من الاستبداد والحرب، لا تقتصر العدالة على القصاص القانوني أو ردّ الحقوق المادية،
بل تمتد إلى بعد أعمق: العدالة الرمزية،
التي لا تُقاس بالتعويض المالي، بل بإعادة الكرامة، والاعتراف، والتمثيل، وإصلاح الخلل في وجدان الجماعة.

في سوريا، لا يوجد فقط ضحايا فقدوا حياتهم، بل ملايين فقدوا مكانتهم، صورتهم، وأصواتهم.
قُتلت الحقيقة تحت الركام،
وسُرقت البطولة من أصحابها،
وتحوّلت المعاناة إلى ورقة تفاوض أو مِلكية فكرية للفصائل والأنظمة.

وحين لا يشعر الناس أن مأساتهم مُعترف بها، وأن روايتهم ممثَّلة، وأن كرامتهم مستعادة،
فلن يكون هناك سلمٌ أهلي حقيقي، ولا عقدٌ اجتماعي مستقر، ولا شرعية سياسية صادقة.

ولهذا، فإن مشروع النهضة يضع “العدالة الرمزية” في قلب عملية التعافي الوطني، بوصفها ضرورة أخلاقية، وسياسية، وسيادية.

 أولًا: ما المقصود بالعدالة الرمزية؟

ليست العدالة الرمزية بديلًا عن العدالة القانونية،
لكنها مكمل ضروري لها، وشرط لاستكمال معناها.

إنها تعني باختصار:

  1. الاعتراف بالضحايا كضحايا، مهما كانت هويتهم.
  2. تمثيل الروايات الجريحة في الفضاء العام، دون إنكار أو إقصاء.
  3. إعادة الاعتبار للمقصيين والمهمّشين رمزيًا، لا فقط إداريًا أو حقوقيًا.
  4. تصحيح السردية الوطنية لتشمل الجميع، لا طرفًا واحدًا منتصرًا.

 ثانيًا: انهيار العدالة الرمزية في سوريا

  1. سُرقت المعاناة من أصحابها
    تم تسييس الألم، وتحويله إلى دعاية، أو إحصاء، أو أداة تفاوض.
  2. تم إقصاء رموز المقاومة المدنية والمجتمعية
    لم يُكرَّموا، لم يُستمع إليهم، لم تُكتب قصتهم، بل أُهمِلوا أو شُوِّهوا.
  3. تمت شيطنة مناطق كاملة، أو طوائف بأكملها
    تحوّلت بعض الانتماءات إلى وصمة، رغم أن أفرادها دفعوا أثمانًا باهظة.
  4. غابت الرموز البديلة، وغابت معها معايير العدل الرمزي
    لم يظهر صوت جامع يضمّد الذاكرة، ويعيد بناء سردية وطنية متوازنة.

ثالثًا: أهمية العدالة الرمزية في بناء السيادة الجمعية

  1. تخلق شعورًا بالانتماء العادل إلى الوطن
    حين يشعر كل فرد أن روايته معترف بها، ومأساته محترمة، يصبح مستعدًا للمشاركة بدل الانتقام.
  2. تُصلح العلاقة بين الدولة والمجتمع
    لا يمكن لمجتمع يشعر بالإهانة الرمزية أن يثق بدولة لا ترى آلامه.
  3. تمنع إعادة إنتاج الظلم في صورة جديدة
    حين تُبنى السيادة على أسس عادلة رمزيًا، لا تعود السلطة مجرد تبديل وجوه، بل تغيير معنى.

رابعًا: آليات تحقيق العدالة الرمزية في سوريا الجديدة

  1. الاعتراف الرسمي العلني بجميع المجازر والانتهاكات، دون استثناءات أو تبريرات.
  2. إنشاء نصب تذكارية وفضاءات عامة تحيي ذاكرة الضحايا بشكل جامع، لا فئوي.
  3. إدماج شهادات الناجين وأصوات المهمّشين في المناهج التعليمية، وفي الإعلام، وفي الفن.
  4. تمثيل المجتمعات المهمَّشة في الرموز الوطنية الجديدة – السياسة، الثقافة، السردية العامة.
  5. ضمان الحق في الحداد، والذكرى، دون خوف أو وصم أو رقابة.

 خامسًا: العلاقة بين العدالة الرمزية والسيادة

السيادة ليست فقط استعادة الحدود والمؤسسات،
بل هي أيضًا استعادة الكرامة الجمعية للشعب، والاعتراف الكامل بقيمته الإنسانية وتاريخه.

فحين تُهمَّش الذاكرة، ويُنكَر الألم، ويُعاد إنتاج الإذلال،
تفقد الدولة شرعيتها، ولو امتلكت السلاح.

العدالة الرمزية إذًا، هي الجسر بين الجرح والسيادة،
بين الكارثة والتعافي،
بين “سوريا المجزّأة” وسوريا الجامعة.

 خاتمة الفصل

قد تُبنى المحاكم، وتُعاد الخدمات، وتُعلَن المصالحات،
لكن الذاكرة لا تُرمَّم بالأوراق، بل بالصدق، والاعتراف، والمشاركة.

في سوريا الجديدة، يجب أن تُبنى السيادة من الإنسان،
وأن يُعاد لهذا الإنسان مكانه، وصوته، وكرامته،
لا بوصفه تابعًا أو رقمًا، بل بوصفه ركنًا مؤسِّسًا في المعنى الجديد للوطن.